في البداية، شعرت بالخيبة: لن أحصل أنا ولا عائلتي على 19 قرشاً للفرد في اليوم (بقسمة 70 ديناراً على 12 شهراً على 30 يوماً) ستُصرف تعويضاً عن إلغاء الدعم ورفع الأسعار. لكنني تلقيت "تعويضاً" معنوياً هائلاً عندما أطلعتني الحكومة على حقيقة كانت خافية: أنا وأمثالي لسنا من الشريحة الفقيرة، ولا حتى المتوسطة، لأن دخلنا أكثر من 800 دينار في الشهر. وهذا يجيب عن كل التساؤلات عن الفواصل بين الطبقات: إن كل الذين يزيد دخل عوائلهم قرشاً واحداً عن هذا الرقم هم من طبقة الأغنياء (بلا حسد)، وإذا اشتكوا، فمن باب "البطر" ونكران النعمة. إذن، لم تذهب حياتي وأمثالي عبثاً بعد عقود من الشقاء والعمل في طلب الغنى ومطاردته، بل إننا حصّلناه ونحن لا ندري. وماذا أحسن من صيت الغنى بدل صيت الفقر؟!
وفي الحقيقة، كنت فهمت من التصريحات الحكومية قبل الأخيرة أننا أصبحنا مثل دول الخليج، وأن الدولة ستوزع الأموال علينا، نحن أرباب العوائل الأغنياء ذوي الدخل الأعلى من 800 دينار، مع مواطنينا الفقراء ومتوسطي الحال. ولكن، لماذا البهرجة والإسراف ونحن لن نشعر بوطأة الرفع، وإنما سيكون الأمر وخزة شوكة في أسوأ الأحوال، بما أننا نكسب من الأموال ما يكفي ويزيد؟ أما البقية من مواطنينا الفقراء والمتوسطين، فلن يتضرروا هم أيضاً، بل يرجح أنهم سيستفيدون وينبسطون! ولن تتاجر الحكومة مع المواطنين وتتشاطر، وإنما ستبيعهم مشتقات النفط بسعر الكلفة، بلا ربح ولا خسارة، وتقضي على "التشوّه" في الاقتصاد بسبب استغلال المواطنين الدولة وابتزازهم إياها وإفقارها طويلاً حتى عجّزوا الموازنة، وجعلوا "الأمور سيئة جداً"؛ فلمَ لا يدفعون حصّتهم؟!
ولكن، لماذا المكابرة؟! إن أرقام مستوى الزيادات في الأسعار مقارنة بالتعويضات تدفع إلى لطم الخدود وشقّ الجيوب، حتى لدى الأثرياء من أصحاب الثمانمائة دينار! وإذا كان هناك شيء واضح في كل هذا الهذيان، فهو شعورعام بالصدمة، وتوقع منذر لشيء غامض لا يشي بخير على الإطلاق. وربما يحكي القصة، بمجاز بليغ، حديث إطفاء أضواء الشوارع ليلاً، وإغلاق المحلات والمولات باكراً، بما يعمق الإيحاء بالخراب والأزمة.
على سيرة الثمانمائة دينار؛ لي قريب دخله أعلى بكثير من هذا المبلغ -ربما ثلاثة أضعافه- بمعنى أنه من كبار الأغنياء حسب التصنيف الجديد. لكنّ لديه عائلة من عشرة أفراد. وحتى يجد لها مأوى ويهرب من دفع إيجارات البيوت، ابتاع شقة يدفع ثمنها أقساطاً عالية للبنك شهرياً. ولأنّه كان مستعجلاً على الإنجاب ويريد أن يخلص، تعاقب أبناؤه بفارق سنة تقريباً. وهكذا، أصبح لديه أربعة يدرسون في الجامعة دفعة واحدة. وحتى تكتمل، لم يكونوا متفوقين، وإنما "تيوساً" من أصحاب معدلات أواسط وأعالي الثمانينيات، فاضطر إلى تدريسهم في البرنامج الموازي حتى لا يتغربوا في جامعات بعيدة، ويفتح كل منهم بيتاً بمصروف. وباختصار، يصعب حال قريبي على الكافر، لكنّه لن يكون مشمولاً برعاية الحكومة الأخيرة وهو "الغنيّ" عالي الدخل.
وفي الحقيقة، أعجبني اقتراح سمعت أن أحداً وضعه على "الفيسبوك": لماذا لا تأخذ الحكومة 70 ديناراً عن كل فرد سنوياً ولا ترفع الدعم ولا الأسعار؟ فكرة! خاصة وأن الناس معتادون على الدفع للحكومة كل الوقت وبمائة شكل وشكل؛ من ضرائب ورسوم وفواتير وطوابع بلا انتهاء، فلماذا لا يساعد الناس الحكومة بهذا المبلغ الإضافي، فيجنبونها عناء صرف الشيكات وإجراءات توصيل الدعم النقدي ووجع الرأس؟
أقرأ ما كتبت أعلاه، فأشعر بأنني أغامر باجتلاب الذأم. أولاً، لأن استطلاعا أخيرا أكد أن 50 % من عيّنة الدراسة يوافقون على رفع الدعم. ومع أنني لم أصادف حتى واحداً من هؤلاء "النصف"، فإنهم يشكلون نسبة كبيرة تستحق الاحترام، ولا ينبغي السخرية من رأيها وبصيرتها التي ترى وراء الأشياء. وثانياً، لأن تحميل المواطن عبء خطل الساسة يُسوّق على أنه الثمن الطبيعي للانتماء، ولا أريد قطعاً أن أكون لامنتمياً أو من "الراقصين على جراح الوطن"! لكنّنا لسنا بلد أغنياء. وبلا مزاح ولا مبالغة، أستشعر البلاء والخطر، وخائف على الناس والبلد.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة