كما لم يلحظ أحد تقريباً احتجاجات أيلول (سبتمبر) الساخطة في الضفة الغربية، لا يلتفت الناس الآن كما يجب لهجوم العدوّ الوحشي الجديد على غزّة أيضاً. ولم تتوقف الحرب على غزة يوماً، حتى لو هدأ ضجيج الطائرات واكتفى المعتدون بالحصار، غير أن التصعيد الأخير يضيف القتل المباشر والكثيف إلى معاناة المحاصرين. وإذن، يأخذ الحدَث الفلسطيني وجهات لم تكن متوقعة، وقد رأى الكثيرون أنّ الكيان المرتعب سيركن إلى السكون ويتحوصل في غمرة الثوران العربي الرافض لوجوده غير الطبيعي في المنطقة. وقد قرأنا أول "الربيع" ملمحاً غير معتاد عندما تنازل المحتلون المتغطرسون، فاعتذروا لمصر عن قتل جنود. لكنهم لم يعودوا يرون سبباً للخوف من أحد في هذه المرحلة.
ومع أن استنتاج أي شيء من فوضى المنطقة التي لا تفصح عن جوهر هو ضرب من المغامرة، فإنّ التحرك الأخير ضد غزة يمكن أن يُقرأ في سياق جردة حساب لحصيلة الربيع العربي حتى الآن. ولن تصب هذه القراءة في خانة الموجَب إذا خلُص العدو –محقاً فيما يبدو- إلى أنّ العرب ما يزالون بلا مخالب ولا أنياب وغارقين في أزماتهم. ولعل من المفارق أن يغيب المشهد الفلسطيني تقريباً في خضم النضال الكبير من أجل تحرر الشعوب العربية من احتلالاتها المحلية، في وقت يقول فيه المنطق إنّ التخلص من عنصر التأزيم الكبير، الكيان الصهيوني، يظل مقدمة لا غنى عنها لنهوض المنطقة واستقرارها. ومرة أخرى، يعود السؤال الدائري حول ما إذا كانت حرية العرب ستفضي إلى القدس، أم أن حرية العرب لا بد أن تمرّ من القدس.
لعل الأقرب والأجدر بالانتباه، هو تأكيد الحدث الأخير على خطورة الانقسام الفلسطيني. وقد فكرت وأنا أشاهد الغارات الغادرة على غزة، بطريقة عاطفية وساذجة، في احتمال إطلاق حزب الله اللبناني صواريخه لتخفيف الضغط عن غزة من الشمال. لكنني امتعضت من الخاطر. أولاً، لأن الحزب منشغل في العناية ببقائه الخاص، وقد تغير موقعه في أعين الكثيرين من قلعة مقاومة إلى نصير للقمع؛ وثانياً: ماذا عن صمت الضفة الغربية الفلسطينية وقيادتها العاجزة –أو غير الراغبة- في اجتراح شيء لتخفيف الضغط عن النصف الحيوي الآخر، وكأنّنا أمام شخص مشلول الأطراف أسفل الخاصرة، فلا يحسّ بتكسير قدميه ولا يُعنى بالألم ما دام لا يلامس نصفه الخاص؟ ومرّة أخرى، لا بدّ أن تأتي الفكرة المنطقية جداً: إذا كان الفلسطينيون هم الأكثر خذلاناً لأنفسهم بشتى الطرق، فليس عليهم أن يتوقعوا مساعدة أحد. وهم يخذلون أنفسهم بالاختلاف على الأساسيات: على تعريف فلسطين نفسها؛ وعلى أحقيّة وجدوى المقاومة التي ينبغي أن تكون مرتبطة موضوعياً ووجودياً بالاحتلال: احتلال، يعني مقاومة! وكأنّ معاناة الفلسطينيين أعمتهم عن قراءة حكمة التاريخ والتجربة: لن يسمعك عدوك ما لم تجبره على الاستماع؛ ولن يحسب لك حساباً إذا لم يتوقع دفع ثمن إيلامك وقتلك.
هذه الفكرة تقود مباشرة إلى الخطاب اليائس الذي طالما سمعناه في أشباه الموقف الأخير: سنردّ على العدو ونوجعه بالطرق التي نراها مناسبة. وكان الرد مرة أخرى هو إطلاق الصواريخ الضعيفة على المدن المحتلة، ولم نشهد رداً يعتد به تقريباً من الشطر الفلسطيني الآخر في الضفة. وكما تبين دائماً، فإن العدو يستطيع تحمل هذا النوع البائس من الرد، ولذلك لا يفكر مرتين في قتل الفلسطينيين واجتياحهم كلما رغب، ودون تحسب لردة الفعل. ومن المفهوم أن الانتقام بتنفيذ عمليات موجعة داخل الخط الأخضر سوف يجلب انتقاماً مقابلاً غير متناسب في ضوء التفاوت الكبير في القوى. ولكن، ما البديل إذا كان هدوء الفلسطينيين لا يعفيهم من القتل والحصار، والأهم: من استمرار الاحتلال الذي تركته سلبيتهم حراً في فرض "التهدئة" ونقضها على هواه؟!
البديل الوحيد، هو اجتماع كل الفلسطينيين ثانية على البرنامج الكفاحي واضح الغايات والوسائل: هزيمة الاحتلال وضربه وإيلامه بكافة الطرق، دون استثناء العمل العسكري، لإجباره على التردد في القتل. وكذلك، التخلص من العملاء والأوصياء غير الأمينين على يُتم الفلسطينيين، الذين يظلمون الشعب المثكول بتكبيل يديه، وتقسيمه، وحرمانه من كرامة المقاومين.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة