المنهج
التربوي وثقافة المجتمع
م. محمد عادل
فارس
في وقتٍ يمتد فيه "الربيع العربي" ويتلون بلون إسلامي ظاهر،
تبرز أهمية تربية أبناء الجيل تربية تتناسب مع الثقافة التي تمثّل هويّة مجتمعاتنا.
التربية عملية يؤسسها المجتمع ويديرها ، لأجل تعزيز ثقافته ،
وتمتين تماسكه . والمنهج التربوي من أهم عناصر العملية التربوية . وفيه تظهر ثقافة
المجتمع وغاياته، أي عقيدته وتصوراته ، وقيمه وأخلاقه، واتجاهاته في الفعل والتغيير
.
وتأثير الثقافة في أي منهج تربوي نراه في مواضع ومفاصل كثيرة من
عمليات إعداد المناهج، ونواتج هذه العمليات .
ومن أبرز المواقف التي يظهر فيها تأثير الثقافة في المنهج ،
موقف اختيار عناصر محتوى المنهج وأفكاره الكبرى . فكل عملية اختيار لهذه العناصر ،
لا بد أن تتأثر بالترجيحات والقيم التي يحملها واضعو المنهج ، بأشكال صريحة واعية
أحياناً ، وبأشكال غير واعية ، أو غير صريحة ، في أحيان أخرى.
ومن الطرق الفاعلة في تحديد الوجهة الثقافية لأي منهج أن تدرس
العناصر التي ظهرت في عملية اختيار محتواه ، وكذا العناصر التي استُبعدت ، وهو ما
صار يطلق عليه في المصطلحات التربوية المعاصرة: المنهج المُقْصى .
وإذاً فكل عملية اختيار تعبّر عن ثقافة مرغوبة يحملها المنهج
المُقَرّ والمكتوب ، وكل عملية استبعاد تعبر عن ثقافة غير مرغوبة لدى واضعي المنهج
، وتشكل المنهج المُقْصى ! .
هناك مثلاً قيم اجتماعية أو سياسية تربّى عليها الأجيال ، وتظهر
في محتوى المناهج المدرسية .. ثم يمرّ البلد بضغوطات خارجية ، أو هيمنة جهات معينة
على القرار ...فيكون من مقتضى هذا أو ذاك ، تغيير تلك القيم التي كانت تتبنّاها
المناهج . ولكنّ النص على قيم مناقضة قد يثير الرأي العام ، ويصدم الثقافة السائدة
... لذلك يقوم واضعو المناهج الجديدة باتخاذ موقف في منتصف الطريق ، فيحذفون من
محتوى المناهج ما كان يحقق القيم المراد إلغاؤها ، من غير أن يستبدلوا بذلك محتوى
جديداً يحقق القيم التي يراد ترويجها ... وقد يتمكنون من التهئية النفسية والفكرية
للقيم الجديدة، عبر محتوى المناهج ، أو عبر أنشطة مرافقة ، كالرحلات المدرسية ،
والكلمات الصباحية ، والاحتفالات في مناسبات شتى ، أو سلوكات ظاهرة يقوم بها بعض
أهل الحظوة والنفوذ .
فقيم الجهاد ضد الكفر، وضد القيم الوافدة تصبح قيماً مرفوضة في
ظل تحكّم الغرب في مجتمعاتنا، فيقوم واضعو المناهج بحذف هذه القيم، والترويج لقيم
التعايش مع القيم الغريبة، والخضوع لثقافة الغرب وتقبُّل طريقته في الحياة...
ومن المواقف التي نرى فيها تأثير الثقافة ، عمليات تنظيم
العناصر التي تم اختيارها ، فترتيب المعارف المقدمة في المنهج ، وطرق ربطها معاً
وتوظيفها ... تتصل اتصالاً وثيقاً ببناء الثقافات لدى الأفراد الذين يقومون بهذه
العمليات ، وتتدخل في هذه العمليات تصوراتهم عن العلوم التي يضعونها ، وعن المجتمع
الذي يعيشون فيه ، وعن البيئة التي سيطبق فيها المنهاج ... وما يتبع ذلك من
تصوراتهم عن الغايات التي يريدون للتربية أن تحققها ، واتجاهات التغيير التي يريدون
للمنهج أن يعزِّزها ويقوّيها .
ويتصل بعمليات تنظيم العناصر المختارة هذه ، كثير من الأسئلة عن
كيفية تأثرها بالثقافة ، فأثر الثقافة قد يبدو في الحجم والوزن اللّذين تحتلُّهما
في عناصر المنهج ( أهدافِه ومحتواه ... ) أي في مدى التركيز الذي يوجَّه نحوها ،
كما إنه قد يبدو في مقدار تعميمها على الفئات المختلفة من المتلقّين ( أو التلاميذ
... ) ، بأن تُعَدَّ مهمة لكل الناس ، أو لشرائح منهم فحسب ، وقد يبدو في تصنيفات
هذه العناصر وتبويبها ، بأن تعالج بعض الظواهر في ميدان العلوم الطبيعية أو في
ميدان العلوم الشرعية .
ولمعرفة أهمية عميات البناء والتنظيم من حيث تأثيرها في الثقافة
، وتأثُّرها بها ، يمكننا أن نتبصَّر في ظاهرة واضحة في مناهج التعليم السائدة في
بلادنا العربية والإسلامية عموماً ، وهي وضع مادة مستقلة بعنوان " التربية
الإسلامية " أو جعلها متسرِّبة في ضمن مواد أخرى ( كالتاريخ واللغة العربية
والاجتماعيات ... ) ، أو تفريدها إلى مواد متخصصة ( كالتلاوة والتجويد والفقه
والسيرة النبوية ... ) ، فكل خيار من هذه الخيارات يحمل رسالة ثقافية ، هذا فضلاً
عن المحتوى الحقيقي والتفصيلي لهذه المواد ، ومدى انسجامه مع المواد الأخرى للمنهاج
وترابطه معها .
ثم يظهر تأثير العامل الثقافي بأشكال وصور مختلفة ، وقد وجد فرع
في دراسة المناهج يختص بدراسة هذا التأثير ، ويحمل اسم " تحليل المحتوى " وهو أسلوب
في الدراسات المرتبطة بالوثائق والنصوص ، له فلسفته وإجراءاته ، ويطبق وفق منحيين :
المنحى الأول : منحى كمّي يكشف توجهات المحتوى من خلال التعرف
إلى مدى تكرار موضوعات معينة أو كلمات معينة فيه .
المنحى الثاني : منحى نوعي يعتمد على الغوص أكثر في معاني
النصوص والرسوم والأنشطة المرافقة ... وما يحمله ذلك كله من قيم وتوجيهات صريحة أو
بالإيحاء ... ويوازن بين ما يقصده الكاتب وما يتلقاه القارئ من هذه المعاني .
وبعد هذا كله يمكن طرح سؤال مهم : إذا وضع المنهاج في مراحله
المختلفة ، وعناصره ، من أجل تحقيق غايات ثقافية محددة ، فهل هناك ضمانة لتحقيق هذه
الغايات وتشكيل الأفراد وفق التصورات التي قام عليها ؟ .
والجواب : ليس هذا مضموناً ، لأن ما تحدثنا عنه هو المنهج
الرسمي المكتوب فحسب ، أما ما يؤثر في الأفراد المقصودين بالتربية فهي عوامل متعددة
، لا يعدو المنهج المكتوب أن يكون واحداً منها . فالمدرسة مجتمع متكامل ، له ثقافته
الفاعلة التي تشكل " المنهج الخفيّ " وهذا المنهج – الخفي – يشكل اللوائح
والتعليمات والسياسات والتطبيق الفعلي لها ، وكذا القيم الفعلية التي تسود جو
التلاميذ والمعلمين ، والمجتمع المحيط .
وهذا الجواب يحل بعض الإشكالات من مثل : لماذا تنشأ في نفوس
التلاميذ وسلوكاتهم بعض المظاهر الإيجابية أو السلبية ، التي لم يتعرض لها المنهاج
؟! ولماذا تلحظ بعض هذه الظواهر في مدرسة دون أخرى ، أو بلدةٍ دون غيرها ؟! أو
مرحلة تاريخية معينة ؟...
إن على الإدارة التربوية العليا أن ترصد آثار المنهجين :
المكتوب والخفي، وأن تعمل على إلغاء الفوارق والتّضاد بينهما ، وأن تتعامل بإيجابية
وواقعية وجدّية مع العملية التربوية ، فتُدخل التعديلات والإصلاحات على المنهج
المكتوب، وعلى الإدارة المدرسية ... لتبقي ما هو سليم نافع ، أو تستدركه ، أو
تعزِّزه ... وتعالج ما هو خاطئ ومنحرف وقاصر . وقد تجد أن العلاج يقتضي إعادة النظر
، ليس في المنهج المكتوب فحسب ، بل في تأهيل المعلمين والمشرفين التربويين ، أو في
إصلاحات خارج نطاق المدرسة كلها ، تشارك فيه مؤسسات أخرى غير المؤسسات التربوية ،
وذلك أن العملية التربوية جزء من عملية تفاعلات اجتماعية واقتصادية وسياسية . والله
الموفق وعليه التكلان .