اليوم، أنجز الأردن انتخاباته البرلمانية التي سُوّقت باعتبارها نقطة انعطاف مفصلية على الطريق إلى الديمقراطية والحريّة والتقدم. ويخطر لي اليوم، مستأنساً بالأمل، أن ألامس شيئاً خبرته خلال فترة التحضير للانتخابات والحديث عن تغيير. 
كنت أصادف كل الوقت في الصحافة الأجنبية، تحليلات ومقاربات للمشهد السياسي الأردني، وتركيبات قواه ومعادلاته. وفي كثير حالات، رغبتُ من القلب في ترجمة بعض هذه التقارير والقراءات العميقة والصريحة، والدفع بها إلى النشر. كنت أومن بعمق بأن في أفكارها ما هو قمين بالاطلاع، لأنّه لا نظير لمكاشفتها في المقاربات المحلية. لكنني عمدتُ في كل الحالات أيضاً إلى طباعة المواد على الورق، واصطحابها لأقرأها وحدي حين يتسنى لي ذلك. كنت أعرف أن صراحتها "ثقيلة" على كاهل العرف الصحفي المحلي ومنسوب حريته، وأنها لذلك لن تصلح للنشر. وبوصفي "داخلياً" في بيت الإعلام، مارست دور الرقيب المعتاد على نفسي، وأخذت من الطريق أقصره، وحجبت.
مع معرفتي بعدم جواز الإفصاح والتفصيل في عرض تلك التحليلات والمقاربات الحرة لبلدنا وانتخاباتنا، أستجير بالاختصار والانتخاب، فأقول إن أحد العناوين التي صادفتها –مثلاً- كان يتأمل مشكلة "الهوية" في الانتخابات الأردنية؛ وآخر يبحث فيما يتوقعه الأردنيون من انتخاباتهم وكيف يرونها؛ وثالث يحلل تركيبة نظام الحكم في البلد وتقسيماته ومصالح جهاته في ترتيب الانتخابات بطرق مخصوصة؛ وتاريخ الانتخابات ومثالب التجربة.. وهكذا.
في البلاد التي قطعت مسافات معقولة على طريق الديمقراطية، ليست مثل هذه العناوين مسموحة وحسب، وإنما بالغة الضرورة لتنوير الجمهور وصنّاع القرار على حدّ سواء. إنها تقدم مساعدة لا تقدّر بثمن في توجيه العملية الانتخابية وإضاءة مساربها، وتؤسس لقدرة المواطن على الاختيار الواعي والمستنير من بين التيارات والشخصيات والمصالح والتوجهات. أما عندنا، فدائرة المحظورات لمّا تزل واسعةً واسعة. وما يزال الطبع الغلاب يُغوي بكنس كثير من الأشياء تحت السجادة، وبالتعامي عن جوهريّات، وكأن ذكرها يلغيها أو يحيّد تأثيراتها ويطردها من منطقة الواقعيّ.
حتى الآن، أنتجت التجربة الديمقراطية الأردنية برلمانات وصفها أحد التقارير بأنها كانت "مطبوخة سلفاً". ولخص آخر بعضاً مما يريد تغييره الأردنيون: "مظاهر غياب العدالة الاقتصادية، الفساد في الحكومات (خصوصاً فيما يتعلق بصفقات الأعمال المتصلة بالخصخصة)، ونظام انتخاب.. يبدو أنه يريد إدامة الحالة الراهنة. وباختصار، ثمة عجز في الإيمان والثقة بالترتيب القائم..".
وجاء في قراءة أخرى: "القانون الانتخابي نفسه، الذي بنيت عليه الكثير من الآمال لإحداث تغيير يعتد به، عُدّل فقط من الهوامش"، ولم يستجب للمطالبات بالعودة إلى "النظام متعدد الأصوات الذي وضع في العام 1989، وسمح بأن لا يصوت الناخبون لمرشح العشيرة أو العائلة فقط، وإنما لمرشحين آخرين ربما يعرضون خياراً أكثر سياسة أو أيديولوجيا". وبالإضافة إلى هذه النقطة القانونية، يصعب الحديث عن برلمان تمثيلي يمكن أن ينتج حكومة برلمانية في ظل غياب شبه كامل للأحزاب المؤثرة، والبرامج التي تقدم رؤى منهجية عملية لمعالجة مواضع ألم الأردنيين. وباستثناء جبهة العمل الإسلامي التي استفادت من التسامح مع عمل الإخوان المسلمين العلني الطويل، تم استخدام كل السبل الممكنة لتنفير الأردنيين من الأحزاب و"السياسة"، بما في ذلك التهديد بالاعتقال والحرمان من العمل وحجز جوازات السفر في فترة الأحكام العرفية. والآن، يحتاج الأمر إلى جهد معاكس متصل ودؤوب لمحو الانطباعات القديمة وتأسيس إلفة بين المواطن والعمل السياسي. لن يكون من السهل إقناع الناس بأن العمل السياسي الذي كان يعتبر خيانة وتآمراً على الوطن، أصبح الآن انتماءً ووطنية تمس الحاجة إليهما لتقدمه.
أياً يكن، جرت الانتخابات التي ينبغي أنها كانت مختلفة. وقد لخص معلق أجنبي فكرتها في سؤال، فكتب: "من بين الأسئلة الكثيرة التي تحيط بهذه الانتخابات (الأردنية)، بطبيعة الحال، هذا السؤال: هل ستفرق؟". سؤال وجيه. بالنسبة للإعلام، مثلاً، ستفرق حين لا تعود ثمة حاجة إلى حجب شيء. وبالنسبة لي، حين أستطيع أن أنشر قراءات الآخرين الصريحة بلا رقابة ذاتية ولا خارجية. وستفرق، حين يذهب روع الناس وتتبدد مكامن قلقهم الكثيرة. وستفرق، حين يعتبر الواحد عزوفه عن الانتخاب خيانة لذاته. أما إذا كانت الانتخابات الأخيرة ستفرق، فلننتظرْ، ونرَ!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة