وقعتُ على صورةٍ في ألبوم قديم، كنت كتبتُ على ظهرها اسمي بخط يدي بُعيد تعلُّمي أبجديّات الكتابة في المدرسة الابتدائية. وقد فرحت بالاكتشاف، وتأملت كثيراً ذلك السطر الصغير المائل، وكأني أطالع نصّاً كبيراً يستدعي الاستبطان. واستغرقني تعقب الطريق إلى ذلك الطفل الذي كنتُه، مبتدئاً من هذا التعرف الأوليّ إلى الكتابة بالعربية.
وعادت لمحات أثيرة من مرحلة الدراسة الابتدائية وبداية التواصل المركب مع اللغة. كانت غرفة صفنا مكتظة، لكنّها جميلة، تعلقت على جدرانها نفس اللوحات الموجودة في كتاب القراءة مكبّرة جذّابة، وقد رسم كلماتها خطّاط صناع. وكنّا نتلمس أول الطريق إلى عالَم العرَبية، بتوقع الطفولة ودهشتها. ولم يكد ينقضي شطر العام الدراسي الأول حتى شرع بعضنا في تهجئة عبارات كاملة. وفي الصف الأول، خطّ الأستاذ اسمي على قطعة ورق مقوّى بأقلام ملونة، وكافأني بها على شيء ما، فبدأت علاقتي مع الخطّ العربي الرائع.
بطريقة ما، تأسست بيني وبين هذه اللغة -رسماً ومعنى- أواصر محبّة مبكرة ومستمرة. وقد وجدت العربية دائماً سمحة، ثرّة وسخية؛ تحبّها فتحبك؛ وتدعوها فتلبيك وتقولك. وقد تخصصتُ في اللغة الإنجليزيّة، وقرأت من شِعرها وأدبها، لكنّها ظلت مع ذلك متمنّعة بخيلة مهما تقرّبت منها، مثل امرأة متعالية ماكرة. ووجدتني دائماً أتوسل القرب من النص الإنجليزي بتوسيط العربية. ولذلك، أجد على حواشي ما لديّ من كتب إنجليزية قراءاتي وملاحظاتي مرقومة بالعربية. والآن، بعد عملي في الترجمة، ما أزال أرتاح إلى النصّ وآلفه فقط عندما يستوي أمامي عربياً قريباً. وما أزال أتساءل كلما رأيت أحداً يفتتن باللغة الأجنبية ويأنس بها أكثر من لسان أهله، عن معنى الافتخار بإجادة لغة أخرى حين لا يجيد الواحِد التعبير بلغته!
ولا عدد للمرات التي وقفت فيها أمام نصوص العربية موقف المستمتع المُعجب. ووجدتُ فيها طباق القول: "إنّ من البيان لسِحراً،" حينما ينساب نصّ مثل غناء عرائس البحر، ويغوي بالخوض في اللجج بلا تحسُّب. وقد عجبت دائماً من ثراء صوتيات العربية وتوزُّعها على طيف واسع بين النعومة والقوة.. من علاقة تكوين مفرداتها العبقري بمدلولاتها.. ومن عدد البدائل التي تُحيل إلى الموضوع في مختلِف أحواله وكينوناته. كل ذلك يعطي صائغ اللغة الحاذق ميزة توظيف الموسيقى في خدمة المعنى، وتحريض العاطفة المقصودة بلا نشاز ولا ضرب على الأذن. وهذا ما جعل من العربية لغة شِعر بامتياز.
بمناسبة اليوم العالمي الأول للغة العربية الذي صادف يوم الأربعاء الماضي، 18 كانون الأول (ديسمبر)، قالت آيرينا بوكوفا، المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو): "اليوم العالمي للغة العربية هو فرصة لكي نحتفي بلغة 22 دولة عضواً في اليونسكو، ويتحدث بها 422 مليوناً في العالم العربي، ويستخدمها أكثرمن 1.5 مليار مسلم... إن أعمال ابن رشد، وابن خلدون ونجيب محفوظ تظل من بين الأعمال الأكثر عمقاً في استكشاف الروح البشرية. وباللغة العربية أنتج هؤلاء بكامل طاقتهم. هذا الحب والافتتان باللغة –المعبّر عنه على سبيل المثال في الخطّ والشِعر العزيزين على الثقافة العربية، هو البوتقة التي انبثقت منها أعظم الثقافات". وأضافت بوكوفا: "إننا، باحتفائنا باللغة العربية، إنما نقرّ أيضاً بإسهام كتابها وعلمائها وفنانيها الهائل في الثقافة العالمية. أولئك هم مؤلفو العربية الذين أتاحوا نقل المعرفة الإغريقية إلى لاتينية أوروبا الوسيطة، ناسجين روابط لا تنفصم بين الثقافات عبر الزمن".
نسمع ذلك، فنفكر في اللغة العربية باعتزاز، باعتبارها التعبير الأعلى عن هويتنا القومية الجامعة –نحن الأمة الكبيرة العريقة- بأديانها وعقائدها وتلويناتها وإثنياتها الفرعية، وعبر حدودها المصنوعة. لكننا نفكّر بأسى أيضاً حين يعلو الحديث عن التفريعات والاختلافات، وعن شاميّ ومغربي، ليس بالمعنى الجغرافي بقدر ما هو بالمعنى السياسي التقسيميّ. كما نفكّر بما يشاع عن صعوبة العربية، حتى ينفر أبناؤها منها سلفاً، ويستعيضوا عنها بغيرها أكثر مما يلزم وحيث لا ينبغي، وبما يعني إنكار الهوية وإنهاكها.
وفي الحقيقة، لا يمكن أن تعشق العربية فتصيبك بالملل. إنها لغة شهرزادية أنيسة، تتكشف لك دائماً عن حكايات وأسرار وأشواق جديدة، وتسمع منها فتشتاقها أكثر -تماماً مثل صاحبة الليالي العربية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة