سُئل إدوارد سعيد ذات مرّة عن أيّ أدواره أحب إليه: المعلّم، أم الكاتب الغزير، أم الناشط السياسي، فأجاب بلا تردد: أعتقد أنه المعلّم!
وشرح: "إنني أدرّس الآن منذ 40 عاماً تقريباً. وقد تعلّمت دائماً في الصفّ الفعلي. هناك شيء يراوغني عندما أقرأ وأفكّر من دون وجود الطلبة. ولذلك، اعتقدت دائماً أن صفوفي ليست مجرد روتين ينبغي عبوره، وإنما هي استنطاق واكتشاف. إنني أعتمد بكثافة على ردود أفعال طلابي. في الأيام الأولى عندما بدأت التدريس، اعتدت أن أفرط في التحضير –التخطيط لكل دقيقة في المحاضرة. وفيما بعد، ولأنه كان لديّ مثل هؤلاء الطلبة النابهين في (جامعة) كولومبيا، بدأت أكتشف أن تعليقات الطلبة تثير خطوطاً من الفكر والنقاش التي ما كنت لأستشرفها سابقاً. وكثيراً ما وجدت طريقها إلى كتاباتي".
تُرى، كم أستاذاً مرّ علينا، من المدرسة إلى الجامعة، ممن اعتنق هذه الرؤية تجاه طلبته وصفه، وطبقها؟! سوف تحدد الإجابة عن هذا السؤال كل شيء تقريباً، من تركيبة عقلنا الاجتماعي، إلى نتاجاتنا المادية والعلمية ونزعاتنا الابتكارية، إلى تربيتنا السياسية والأوضاع الإنسانية للفرد والأمة.
لقد ألفنا في عملياتنا التعليمية سمتها بالفوقية. إنها ليست حركة تفاعلية باتجاهين، وإنما هبوط من الأعلى إلى الأسفل، باعتماد ما يسمى "التلقين". وتستدعي هذه المفردة صورة غير جميلة أبداً: شيخاً يلقّن ميتاً قبل إيداعه التراب. وهي عملية تنطوي –كما هو واضح- على الحياد المُطلق لعقل المتلقي الذي يستمع ويستظهر فقط، لكي يعيد ما حفظ عندما يُسأل. وفي الصفّ الدراسي الذي قوامه التلقين، سيعمل بالضرورة عقل واحد، عقل الأستاذ فقط، بينما تتعطل عقول العدد الكبير من الطلبة الذين يساهمون فقط بقول: آمين! ويسمي الإنجليز هذا "التعليم": "الإطعام بالملعقة" (spoon feeding)، ومعناه: "معاملة (الآخر) بطريقة تثبط فيه التفكير أو النشاط المستقل، بالتشبيع". أو "تزويد (شخص) بآراء وأحكام.. إلخ، مقرّرة سلفاً، وحرمانه من إمكانية التفكير والفعل بشكل أصيل".
وقد رسّخت "روتنة" هذه الآلية الميتة في التعليم معتقدات قاتلة: إن المعلّم سلطة عُلويّة مطلقة، يمتلك وحده مبتدأ المعرفة وخبرها. وفي المقابل، فإنّه ليس لدى الطالب ما يعرضه، وعقلُه قاصر حتماً عن الإضافة أو الاستكشاف. وبهذه الكيفيّة، يتمّ إعدام ملايين الأفكار والقراءات الجديدة في مهدها بسبب خوف الطلبة من المداخَلة بمعارضة الأستاذ أو التعقيب عليه. ويتأسس نمط بشري غير مدرب على المبادرة، ومبتلى بالشك في إمكاناته وجدوى مشاركته.
والمعلم الذي يتحدث كل الوقت ولا يسمع، لن يتطوّر تقريباً، ولا يحتاج إلى تشغيل دماغه في الحوار والمحاججة. ولأنّه حرّ من اليقظة التي يتطلبها التفاعل الحواري، فإنه سيجتر ما استظهره بدوره، وسيكرر عِظاته المحفوظة في محاضراته –ربما لعقود- بدون أن يستفيد من فرصة وضع أفكاره موضع المفاوضة والاختبار والتعديل والإغناء بالتغذية الراجعة من الطلبة. والنتيجة: النفور من الصفوف والدراسة المملة؛ ومفاقمة الانفصال بين الطلبة والأساتذة، وافتقاد الغرف الصفيّة روح الإلفة، وإفقارها حدّ الإملاق. وهكذا، يصبح العلم مُحتكَراً في دكاكين المعلمين، ويبقى الطلبة مستهلكين مدمنين.
المشكلة أنّ هذا النمط تحول إلى دائرة شرسة؛ فالطالب المتخرج من هذه "المدرسة" سينسخ غالباً خبرته ويحملها إلى ممارسته الاجتماعية وأدائه الوظيفي: إذا أصبح أستاذاً، سيكون صاحب دكان احتكاري آخر لبيع السلعة المعرفية للمستهلكين الجدد على طريقة معلمّه هو. وإذا أصبح مسؤولاً، حيّد كوادر مؤسسته واستبدّ بإدارتها، وأنكر عليها مؤسسيتها. وإذا أصبح ربّ أسرة، استحب موضع الآمر الناهي الذي لا يُناقش. وإذا أصبح سياسياً، ازدرى الحوار وأسكت الأصوات، وحوّل الجميع إلى مستمعين أميين، يقولون: آمين، وحسب.
نذكر المعلم، فنتذكر قول الشاعر: "قُم للمعلم وفِّه التبجيلا/ كاد المعلم أن يكون رسولا". ومشكلتنا الدائمة في التأويل. فقد ألقوا في روعنا أن هذا الوصف يضفي على المعلم القداسة والعصمة، بحيث يقترب من صفات الرسل المزودين بمعرفة لا تقبل الخطأ. لكنّ دور الرسُل الأصلي هو تفتيح العقول، ونقل الناس من الظلمات إلى النور، وتحويل العبيد إلى أحرار وإعطاؤهم صوتاً، فهل يفعل ذلك المعلمون؟! أحيلُ ثانية إلى "المعلم" إدوارد سعيد!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة