الحديث عن الفروقات بين الأجيال ينطوي على محاذير، لأنّ كل جيل يُشاهد الآخر من زاويته، وينطلق غالباً من الشك والاعتقاد بأحقيّة الذات. ومع ذلك، سأغامر بعرض قراءتي لظاهرة في أجيالنا الشابة، دون إغفال الاستثناءات بطبيعة الحال: محدودية الاطلاع وضآلة الثقافة.
من واقع العمل مع شبان وشابات جلُّهم من طلبة أو خريجي الجامعات، أطرح عليهم أسئلة أظنها عادية، ويدهشني الجهل بالجواب. مثلاً: ماذا تعرف/ أو تعرفين عن الرئيس الأميركي الحالي، وكيف يتعامل مع قضايانا؟ ما سبب أزمة العراق، وكيف تطورت؟ ما هو آخر كتاب غير جامعي قرأتموه؟ أو، من تعرفون من أدباء الأردن، غير عرار. أو: ما هُم الإخوان المسلمون، وما علاقتهم بمصر؟ وفي بعض الأحيان، يسألونني فأجيب كيفما اتفق لأستكشف ردة الفعل. مثلاً: سألتني خريجة جامعية عن اسم "تولستوي،" فقلت: إنها عاصمة روسيا، وكتبت في موضوعها ذلك دون مناقشة. وسألني متدرب عن "ميشال" الذي يتكرر عنده في مقالة إنجليزية عن غزة، فقلت إنه ليس ميشال وإنما "خالد مشعل" فهل تعرف من هو خالد مشعل؟ ولم يعرف شيئاً عنه. وهذه الأمثلة غيض من فيض، وكثيراً ما تكون الموضوعات المجهولة أقرب وأيسر وأكثر بداهة.
وقد اعتدت معاتبة هؤلاء الأبناء على كونهم لا يقرأون ولا يسمعون الأخبار. لكنني كنتُ أشفق عليهم في دخيلتي وأقدّر أنهم ليسوا الملومين في التحصيل الأخير. ولاحظت -دائماً تقريباً- كلما شرعت في التصحيح أو التعريف، أنهم يستقبلون معلومة التاريخ والسياسة والأدب والحياة بشغف المتعطش، ثم يشرعون في طرح الأسئلة عن مختلف الموضوعات إذا آنسوا فيك معرفة ورغبة في الإفادة. وباختصار، ليست فكرة رفض المعرفة عند هؤلاء الشباب الرائعين طبعاً جينياً بنيوياً، وإنّما هم نتاج طريقة حياة ونمط اجتماعي لا يحتفيان بالمعرفة، ولا يضعانها ضمن معايير تقييم الأفراد، بل ان ثمة اتجاهاً رسميا واجتماعياً عاماً يعادي المعرفة.
بمراجعة الخبرة القديمة، يمكن الزعم بأن أجيالنا شهدت تراجعاً مطرداً في منسوب المعرفة. ففي زمن ليس ببعيد، كان خريج "المترك" يشتغل مباشرة بالتدريس، وينجع بلا شهادات من معهد أو جامعة. وكان خريجو الثانوية وحدها مثقفين وعارفين بشكل عام. وبعد ذلك، كان أساتذتنا من حملة درجة دبلوم المعاهد بعد سنتين من الثانوية، يقدمون لنا تعليماً قويّاً وتثقيفاً جيداً. وبعدها أصبح خريجو جامعاتنا معروفين بالكفاءة والتميّز، بحيث أسهموا بفعالية في تطوير المعرفة لدى المجتمعات الشقيقة. ولا أتصوّر أن الجهل بما يحصل في البلد والمنطقة والعالم كان الطبع الغالب على الشباب قبل عقدين أو ثلاثة من الآن.
لكنني أتذكر أيضاً من بدايات الثمانينيات –وربما بدأ الأمر قبل ذلك- اتجاهاً مُبيتاً إلى تجهيل الأجيال. كان "المثقفون" من الطلبة ممن يعرفون ما يجري ويفكرون في الانخراط، يُعتبرون خطِرين، لأن المعرفة، فتمرين ملَكة التأويل والتحليل والاستنطاق، ستعني المطالبة بالإجابات، وبالتغيير أو الاضطلاع بدور فيه. ثمّ تكرّست –رسمياً- فكرة فصل الدراسة عن السياسة في المدارس والجامعات، وأحياناً تحت طائلة تجريم الثقافة السياسية باعتبارها تمرداً. وكان يكفي العثور في منزل الواحد على "كتب سياسية" أو فلسفية حتى يُعتقل، وربما يُفصل من المؤسسة التعليمية بعد ذلك. وفي معظم المنطقة العربية، أصبح الاطلاع على الأفكار الجديدة في العالم أو مجرد الحديث في "السياسة" يُناظر التمرد، وانحلال الأخلاق واستيراد الأفكار "الغربية والشرقية" المدمرة لثقافتنا وأعرافنا وثوابتنا الراسخات؛ وعلى رأسها الأنظمة السياسية. وأحدثت تلك المرحلة خللاً في منظومة المعرفة والعقل الاجتماعي، تتجلى آثاره المدمرة الآن.
ربما يكون الأمر أننا تحولنا إلى "مجتمع تقنية!" ويتعجب جيلنا "الحنبلي" من سهولة تعامل الأطفال مع الهواتف الذكية والحواسيب. كما تحدثنا بفخر عن "ثورات الفيسبوك وتويتر". والحقيقة أن الشباب هم محركات الثورات الأخيرة، لكنّ ثوراتهم اصطدمت بعدم توافرهم على الأساس المعرفي والبديل النظري والرؤية السياسية المنهجية الضرورية لقيادة تغيير ثوري ناجح –كما تبيّن.
معرفة الشباب بحقيقة ما يجري ليست نافلة. وتجهيل أبنائنا المفزع بالآليات والأسباب والغايات، هو إبادة جماعية للأمة وحكم بإسلامها للعدم. ولدى الحديث عن أي مستقبل، من محاكمة هذا الخطأ وإصلاحه ينبغي البدء!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة