يشعر المرء بالقلق لدى مطالعة القراءات التي ترصد وجهات العالم ومعضلاته القادمة، فتضع أزمة الغذاء على رأس القائمة. ومن آخر هذه القراءات ما كتبه هذا الشهر ليستر براون، رئيس معهد سياسة الأرض. ويؤكد براون أن "الحقبة القادمة ستتسم بارتفاع أسعار الغذاء وانتشار الجوع". وسوف يفضي اتجاه الغذاء العالمي الهابط من الوفرة إلى الندرة -إن لم يتم وقفه- إلى "هدم نظامنا الاجتماعي" كما يقول. فإلى أي حدّ نهتم بمشكلة الغذاء في الأردن، وبأي قدر من الجدّية والاستنفار نعامل متغيراً حاسماً يهدد بتقويض نظامنا الاجتماعي، وما الحلول التي يعرضها المخططون لتعزيز الأمن الغذائي الوطني؟
سوف نعثر على تقييم لنجاعة أدائنا الوطني في هذا الصدد، وعلى إجابات عن الأسئلة السابقة في حالة نظامنا الاجتماعي المقلقة. وقد شهدنا باطراد طيفاً متعاظماً من الاضطرابات الاجتماعية المنذرة التي عبرت عن نفسها في تحليق مستويات العنف المجتمعي والجامعي، وتزايد معدلات الجريمة المحلية وتنوع أشكالها، وتعمق القلق النفسي الجمعي، وأخيراً في الاحتجاجات الشعبية الساخطة من ضيق الأحوال. وبغض النظر عن الكيفية التي تصاغ بها معادلة السياسة/ الاقتصاد، فقد تصدّر رغيف الخبز الشعارات الشعبية بوصفه أولوية طبيعية لاستقامة الحياة. وقد جاءت هذه المظاهر طباقاً للمقولة الحكيمة: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!".
من الطبيعي أن تكون تداعيات سيناريو الغذاء العالمي المفزع أكثر سوءاً في المجتمعات المستهلكة للغذاء، حسب درجة اعتماديتها على الآخرين في التزود بخبزها نفسه. وليست علاقتنا بهذه التداعيات ضرباً في الرمل أو تهويماً في النظرية. إننا نختبر المشكلة يومياً في كل مرة نصارع فيها ميزانياتنا العائلية، وعند كل توقف في السوق أو البقالة. ولدى استعراض الاتجاهات العامة لواقع الغذاء في الأردن، نلاحظ ذهاباً مستمراً إلى الاستيراد والاعتماد على الخارج في قوتنا. ولا يستطيع المستهلك غير المنتج أن يشترط بقدر ما سيكون خاضعاً لاشتراطات خارجة عنه. وعندما يحذّر المراقبون بشدة من ندرة الغذاء الوشيكة في العالم لمختلف الأسباب، فإن ذلك سيعني لنا، بلغة الاقتصاد، ارتفاع الطلب في مقابل تدني العرض، بما يعني المزيد من تحليق الأسعار وزيادة عبء الكلفة على المواطنين.
فهل نحاول اجتراح شيء لتقليل الكلفة؟ بدلاً من البحث عن حلول داخلية، يبدو أن تعامل المخططين مع هذه المشكلة يتجه إلى تدعيم قدراتنا الاستهلاكية، باللجوء إلى المساعدات والقروض الدولية وما شابه، وبقصد محاولة تمكيننا من دفع الأثمان المتصاعدة لغذائنا المستورد. ويعني ذلك يأساً كاملاً، أو تجاهلاً غريباً لإمكانية التفكير في تحسين الاعتمادية المحلية في هذا القطاع. وإذا عرفنا أن الأردن يدفع فاتورة غذاء مستورد تدور حول ملياري دينار سنوياً، فإنّ ذلك يؤشر على مدى ارتهاننا لغيرنا في مصدر أمننا الحيوي نفسه، في حين تعمق السياسات هذا الارتهان فحسب.
صحيح أننا نعاني من ندرة المياه وضيق الرقعة الزراعية وتزايد أعداد السكان، وهي أمور قدرية لا دخل لنا بها، لكنّنا لا نبلي حسناً في الأمور الاختيارية. وفي مثال على التفريط، يتذكر بعضنا أن الأردنيين كانوا في السابق يجدون عنتاً أقل في الحصول على الغذاء المحلي بكلفة معقولة. فمثلاً، كان يكفي سكان عمان القيام بمسيرة ترويحية على الأقدام إلى أطراف جبالهم، ليجدوا حقولاً مزروعة بالقثائيات والقمح والشعير، ويشترون منها غذاء طازجاً بلا كيماويات بقريشات قليلة. وكان الأمر أيسر على القرويين حيث الزراعة عماد الحياة. لكن الاندفاع غير المدروس إلى التحضر، عنى التضحية بسلة الغذاء المحلية كشرط للتقدم. لكن أي دولة متحضرة لا تجور على أراضيها الزراعية، لأن إنتاجك غذاءك مسألة استراتيجية ووجودية. فأين ذهبت حقولنا وزراعتنا؟ وكيف تعمق اتجاه غذائنا من الوفرة النسبية إلى الندرة شبه المطلقة؟ أليس ثمة طريقة لتحسين الإنتاج الحيواني والأداء الزراعي؟ ألا يمكن تخفيف الهدر المائي وتآكل الأراضي الزراعية؟ ألا يمكن دعم المزارعين والاستثمار في غذائنا، بما يحرر قرارنا ويستعيد لنا الإحساس ببعض الأمن؟
يقول ليستر براون: "الغذاء هو النفط الجديد. الأرض هي الذهب الجديد". يبدو ذلك معقولاً، فهلا تأملنا العمل على هذه الفكرة؟!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة