العالم المتقدم منشغل بإحداث ثورة الاتصالات وتوسيعها، ونحن باستهلاك منتجاتها -حتى في "ربيعنا" العربي. لم نكن نتصور قبل عقدين التحدث مع أحد بالهاتف ورؤية صورته على شاشات هواتفنا النقالة الصغيرة في نفس اللحظة. ولم تخطر لنا إمكانية الاستماع إلى مُحاضر في أقصى الأرض، ومناقشته على الهواء مباشرة وكأننا حاضرون في قاعته. ولم يعتقد الناشطون قبل عقدين بأنهم سيستطيعون التحشيد لتظاهراتهم باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي بدلاً من المناشير السرية والدعوة الشفهية.
كنا نتحدث بإعجاب عما نعرفه عن هذه الاتجاهات، عندما قال صديق مختصّ إن اليابانيين طوروا نظام متحسسّات يجعل النباتات ترسل رسائل تطلب فيها الريّ والغذاء. كما أنه رأى في بلد أوروبي أناساً يعملون على شكل بالغ التطور من الأداء الرقمي. وحسب الوصف، فإنهم يشتغلون على نوع من "السياحة السيبرانية". وإذا ما تجسدت الفكرة –ولا شيء يمنع ذلك- سيتمكن الإنسان، باستخدام تقنيات اتصالات حسيّة وبصرية فائقة، من زيارة أماكن بعيدة والتجول فيها افتراضياً وكأنه فيها، بل انه يمكن أن يستنشق الروائح الحقيقية لتلك الأمكنة وهو في مكانه لم يبرحه.
بالنسبة لي، أيقظ ذلك مشاعر مختلطة: الفرح، الفخر، الخجل، والنكد. الفرح: لأنّني سأتمكن–إذا كان لي عُمر- من قضاء عطلة في جزر الباهاما وأنا في الأردن. والفخر: لأنني أنتمي إلى الجنس البشري الذي يتمكن تباعاً من خداع الجغرافيا والزمن والمسافة بالتقنية. والخجل: لأنّ أمتي، أمة العرب، ليست من الأمم التي تهرول إلى هناك، وإنما تعرُج هنا فقط. والنكد: لأنّ تشغيل تلك التقنية سيحرم الأردن من دخل السياحة الذي نتعكز عليه. وغالباً، سيندر السياح إذا أمكن للمرء أن يدخل مكتباً للسياحة الافتراضية في باريس مثلاً، فيزور جرش والبتراء في ساعتين، ثم يتناول غداءه في مطعم مجاور قبل أن يعود إلى منزله.
وبالتزامن مع خاطرة النكد بالتحديد، علّق صديقٌ أحبّ أن يعيدنا من أجواء الحلم إلى واقعنا القاتم. قال: "ربّما نسيتم. عندنا كان البعض أسبق، وابتكروا وصفة أليَق: ما عليك سوى أن تحيط نفسك بحزام ناسف، وتفجر نفسك والذين حولك في المكان الذي يحددونه لك، فتطير في طرفة عين إلى ما هو أجمل من كل ذلك. سوف تذهب إلى جنّة الخُلد التي وعد الله بها المتقين من عباده، إلى المكان الذي لا نهاية له، ولا ملل فيه، ولا أجمل من نسائه وغلمانه، حيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!"
حقاً! الناس أين ونحن أين! أليست هذه السياحة غير الافتراضية هي التي يعرضها ويروج لها الكثيرون في أنحائنا، ويجدون مِن بيننا مَن يشتريها؟! أليس هكذا يلخصون أشواق المسلم وغاياته وجهاده؟ لقد أصبحت الفكرة الرائجة عالميّاً، وحتى محليّاً، أن منتهى الإسلامية أن يصبح المرء انتحارياً بالتحديد! وفي عرض ملفت للعب باللغة، تحول مفهوم "المجاهد" المقترن بالطيبة والكفاح من أجل الحياة والسلام إلى "الجهادي" الأيديولوجي الذي قرن نفسه بقطع الرقاب وتفجير مواطنيه وأبناء دينه في الأسواق والفنادق بلا تمييز. وكأنّ هذا هو الإسلام العظيم الذي جعل الحياة هي الأولى والسابقة –كما هي- على الآخرة، فأوصانا بالعمل لدنيانا وكأننا نعيش أبداً، مع العمل الطيّب من أجل الآخرة!
المشكلة في هذا التنميط المفرط لثقافة الإسلام وأصحابها، واختزالها في صورة المفجر الانتحاري، أنّه يخفي في ظلاله الأنواع المعاصرة المتخفيّة من التشدُّد الإرهابي الأشد فتكاً. هناك المتشددون من الساسة الغربيين الذين لا يفجرون سوقاً بحزام ناسف، وإنما يفجرون بلداً كاملاً ويأخذون آلافاً من مواطنيه في سياحة بلا وعد ولا عودة. وهناك المتشددون الصهاينة الذين يقصفون بلا تمييز في فلسطين المحتلة وغيرها، ويُفلتون أيضاً. لكنّهم لا ينتحرون، ولا يفرطون بدماء مواطنيهم.
لا نفهّم كيف يدعم أحد أصحاب فكرة الحزام الناسف في مكان، ويرتعد رُعباً إذا شاهدهم في منطقته. لا نفهم علاقة الجهاد بـ"زواج المناكحة". والآن، تتعرض قدس المسلمين –كحالها دائماً- للاغتصاب والتدنيس، ولا "جهاديين" يتسللون إلى هناك، ولا أنظمة تموّل مقاومة الفلسطينيين. لعل الفارق يكمن في المسافة بين "السياحة السيبرانية" وسياحة الحزام الناسف؟!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة