سنة 1966، قبل 47 عاماً من الآن، ركبت الحافلة مع عائلتي من مجمع "العبدلي" في عمان إلى الخليل في فلسطين. كُنا نذهب هناك زواراً عند أخوالي بعد احتلال بلدتنا التاريخية في العام 1948. كانت الرحلة قصيرة، ربما أقل من ساعة بالحافلة من عمّان إلى الخليل. واحتفظت ذاكرتي التسجيلية الصغيرة آنذاك بمقاطع من تلك الرحلة القديمة: محلّ خالي المزدحم بأكياس الطحين؛ المقعد الأبيض العالي في عيادة الوكالة؛ "القلاب" الذي ركبنا في صندوقه الخلفي ذات مساء لزيارة أقارب عندهم كروم وكلاب حراسة؛ ابن خالي خميس الذي يصطاد العصافير بفخاخ الأسلاك –ولا أعرف الآن شيئاً عنه؛ وصورة غائمة لداخل قبة الصخرة –من بين أشياء. كانت تلك أول وآخر مرة أطأ فيها أرض أجدادي الذين عَمَروا فلسطين منذ زمن لا أول له.
الحكاية شخصية فقط بمقدار التفاصيل الصغيرة. لكنها حكاية الملايين من أهل الوطن الذي يُسمى فلسطين، والذين توزعت عليهم حصص متفاوتة من النكبة منذ 15 أيار (مايو) 1948. منهم من تلقى الضربة الكبيرة الأولى وخرج خالي الوفاض، مقطوع الجذور ومطروداً بالرعب؛ منهم الذي وُلد توأماً للبؤس في خيمة عارية؛ منهم الذي غلبَته الحياة والذي غالَبها؛ ومنهم مَن قضى نحبه والذي ينتظر. لكنهم اشتركوا جميعاً بقدر النكبة، والاستلاب والظّلم.
الآن، بعد 65 عاما على بداية النكبة، ونصف قرن تقريباً على رحلتنا الأخيرة إلى الخليل، ما تزال رحلة خروج الفلسطينيين العظيم تمعِنُ بهم بثبات في التيه، مثل المنبتّ الذي لا أرضاً قطع، ولا ظَهراً أبقى. جيل أبي وأمي، خرجوا وهم يظنُّون الحكاية كابوسَ ليل قصير، وشدّوا أيديهم على مفاتيح البيوت حتى أفلتها طائف الموت وأنهى انتظارهم الطويل. وجيل الأبناء، طالت بهم الرحلة التي كانت ذات مرة مُتاحة وقريبة إلى ما تبقى من فلسطين قبل 67، حتى أصبحت قرينة المستحيل. الآن، أصبحت المسافة إلى نيويورك، بكين، أو حتى القمر، أقصر من المسافة بين عمّان والخليل. وبالنسبة للأحفاد وأبنائهم، ثمّة الحبل السُري الذي يشدهم إلى منبع النكبة ويأبى أن ينقطع. وحتى لو تغافل أحدٌ وأراد الانهماك في الدنيوية، فإن هناك دائماً ما ومَن يذكره بأنه من هناك.
الحصيلة، بعد كل هذه العقود، لا تجلب السلوى. الفلسطينيون مقسومون بين رهائن احتلالٍ معتقلين في أرضهم التاريخية نفسها، وبين لاجئين مرفوضين في نهاية الأمر، مهما حاولوا التكيّف أو بنوا للآخرين، والكل تُلزمهم بحمل العبء الفلسطيني رابطة الدم غير الاختيارية. والفلسطينيون مقسومون في نضالهم، وفي إجازاتهم من النضال. والفلسطينيون خاسرون دائماً في مُنعرَجات الرحلة الطويلة بالغة القسوة: خسروا الأمل الذي يخالط المشتبك في احتمال الانتصار؛ خسروا الإحساس بالحماية الذي تجلبه البندقية، حتى لو أمام مدفع؛ خسروا فلسطين 67 بعد فلسطين 48؛ خسروا الأرض العالية التي تتهيأ للمطالِب بالحقّ عن إيمان؛ خسروا فرصة شرف الالتحاق بمعسكر للمقاومة، ونشوة الأناشيد الوطنية الفخورة؛ خسروا البرنامج الوطني، والثوابت الوطنية، وثقة صاحب الحقّ في تعريف الحق: فلسطين من البحر إلى النهر؛ فلسطين هي الضفة وغزة؛ فلسطين جزء من الضفة وغزة؛ فلسطين...؟!
الآن: اجتياح الأقصى؛ قصف غزة؛ ترحيل المقدسيين؛ حرق الزيتون العتيق، وتبرع أحد بقطع من الضفة الحزينة لمستعمرات "الضيوف"، ومسامحته مستوطني الخليل الوحشيين بلحمها الذي اقتطعوه إلى الأبد، بمصادقة نفس الأوصياء على يُتم الفلسطينيين. ولمنتهى الإذلال، يرفض نتنياهو أعطية الشقيق بدعوى أحقيته في "وطن اليهود التاريخي" -الذي عاش فيه هو وآباؤه وأجداده وأجداد أجداده، وأعطاه الله لهم في الكتاب!
يتساءل الفلسطينيون الذين تشبثوا بجمر هويتهم أجيالاً عمَّ يحصل خطأ لتذهب نكبتهم دائماً إلى مزيد من النكبة! ثمة مجلدات مما لا دخل لهم فيه: تنكر البعيد والقريب لعدالة قضيتهم، التضييق على نضالهم وكسر بنادقهم، والضيق بعبء مظلمتهم على الضمير، وأكثر. لكن هناك أيضاً "دود الخلّ" الفلسطيني أخيراً. ثمّة فارق واضح، ومُعمّى، بين النكبة التي تلطفها مطاردة الأمل، والنكبة التي يعمقها خطاب مهزوم يقطر نكبة؛ بين الركون إلى حُداة يعرفون الطريق ويُطمئنون المرتحلين، وآخرين مضارِبين يضربون بنا في التيه -بعيداً دائماً عن الخليل. وما تزال النكبة...!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة