قبل يومين، كنت أُقلّ ابنتي من الجامعة إلى البيت عندما وجدنا طريقنا مسدوداً بسيارة سوداء رباعية الدفع، اصطفت بالطول على زاوية الشارع. وعنى وقوفي في انتظار الأخ صاحب السيارة، أن أغلق الشارع على المركبات التي خلفي. وبعد ثوان، شرع سائقوها في "التزمير" احتجاجاً عليّ، فأطلقت بوق سيارتي تنبيهاً لصاحب السيارة، وكدتُ أندم. حدّق في وجهي شخص جالسٌ في المقعد الأمامي تحديقَ الناظر إلى قاتل أبيه. ولا أخفي أنني خِفت، وأبدعت بالمناورة في الزاوية الضيقة حتى عبرت، وتنفست الصعداء. واضطررت إلى ابتكار تبرير لحماقة "التزمير" بعد أن لامتني ابنتي على سلوكي الذي توقعت بغريزتها أنه ربما كان سيوقعنا في مشكلة وقد قرأت ملامح الشخص الحاقد في السيارة السوداء. ماذا لو كان يعتقد بنفسه الأهميّة والحصانة، فنزل ليعاتبني -أو يعاقبني- بهراوة، وربّما مسدّس؟! ليس غريباً ولا مستبعداً أبداً هذه الأيام!
وأمس، قبيل كتابة هذا المقال، وجدتُ الشارع الذي أسلكه إلى الجريدة بطيء السير وشبه مغلق. وعند نقطة من الطريق، رأيتُ من بعيد أناساً واقفين فوق جسر المشاة ينظرون إلى شيء ما -ربما حادث سير لا قدّر الله؟! ولم يكن حادث سير، وإنّما أقبح. عندما وصلت المكان، رأيتُ على الجهة الأخرى رهطاً من الناس، كلّهم -أو جلهم- بالقمصان الداخلية البيضاء (الشبّاح)، يسيرون زرافات ووحداناً ويصرخون بأشياء لم أتبينها، ويلوحون بعصيّ مثل أيدي المجارف، كلّها جديدة ومقدودة على نفس المقاس. وفي مروري الذي أردته أن يكون سريعاً حتى أهرب من طائلة التوتر، لمحتُ أحدهم يرفع عصاه في نيّة ضرب سيارة مصطفة على جانب الطريق، حين منعه زميل له (أكثر تحضُّراً). وعلى باب محلّ مغلق، وقف عدد قليل من رجال الشرطة متجمّعين، يتحدثون بالهواتف -ربّما في طلب النجدة أمام العدد الكبير نسبياً من أصحاب "الشبّاحات".
لم أعرف حتى كتابة هذه السطور ماذا كان الأمر، ومَن هؤلاء. لكنّني لا أتصوّر -وأتمنى أن أكون محقّاً- أنهم كانوا محتجين سياسيّين أو مطالبين بحريّة أو حقوق إنسانية. لم أشاهد يافطات، ولا ذلك الانضباط والمظهر المسالم الذي ينبغي أن يبدو عليه أناس ضاقوا بعنف الظروف أو السلطات، فلم يحبّوا أن يكون احتجاجهم نفسه إضافة إلى العُنف. لم أرَ أناساً يسيرون متشابكي الأيدي، مستأنسين بالمجموع يعالجون المسافة الحرجة بين الخوف والشجاعة، وينخرطون بتردد أولاً في هُتاف جماعيّ. كان الذي رأيته تجسيداً لفكرة مطلقة السلبيّة والإيحاء والمعنى، كنتُ أعرفها في الأدبيّات ولم أتوقّع أن أشاهدها قيد العرض في شوارع الأردن: الرعاع، أو "mobs". وإذا شاهدتُ شيئاً كهذا، ففي الأفلام الأجنبية عن أوروبا العصور المظلمة، حين يتجمع الناس في حيّ سُفليّ ليشاهدوا عملية تعذيب أو إعدام علنيّ.
ما الذي حصل؟ لم نكن نشاهد، ولم نحلم بأن نشاهد مثل هذه العروض في أحيائنا وشوارعنا الرائعة المسالمة. لم يكن آباؤنا مضطرين إلى اصطحاب شقيقاتنا من مدارسهن أو أماكن عملهنّ خوفاً عليهنّ من عوامل الطريق. ولم نكن نخرج إلى وجهاتنا مصحوبين بالتوتر والخوف من الوقوع في نقطة اشتباك، أو أن "يتبلانا" زميل طريق غاضب. لم نكن نفكر كثيراً في "مش عارف مع مين بتحكي!" مع مَن أحكي؟ مع مواطني، وجاري، ونسيبي وابن بلدي وسندي وظهيري! هكذا نتذكر الأردن، حتى في أعقد الظروف والأزمات التي كانت دائماً عابرة. لم يكن بيننا الشك والخوف والهويّات والدرجات والأهميّات سافرة بهذا الوضوح الفتّاك. أم أنّ شيئاً كان يمور تحت قشرة الهدوء؟!
إذا وصل الأمر إلى خروج جماعات بـ"الشباحات" والعصي في وضح النهار، فإنّ هناك مشكلة. لم يكن يجوز أن يظهر أحدٌ بالشبّاح في شباك منزله، حتّى يصبح هذا اللباس الداخلي زيّاً موحداً علنيّاً للتعبير عن شيء.
وليس في ذهني -غير الاضطراب من مشهد الرعاع- سوى اقتراح قد لا يعتقده البعض مجدياً: حوار وطنيّ، يشترك فيه الأردنيّون من كل الشرائح -ولو بالمئات، يلتئم لستة أشهر أو سنة، يعيد فيه الناس التعارف والودَ، ويتفقون فيه على التسليم لقانون جامع عادل!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة