لم أكن أعرف أن للآباء عيدا رسميّا يُحتفى به في العالَم. كنّا نحن الآباء نتندّر فقط عندما يُحتفى بالأمهات في عيد الأمّ، فيما نحنُ نُنسى وكأننا فُضولٌ بلا فضل. ثم اكتشفت من مواقع الأخبار الغربية هذا الأسبوع أنّهم يحتفلون بالمناسبة هناك بمنتهى الجدّية الآن. ووجدت بعد ذلك أنه يُحتفَل بعيد الأب في "بعض الدول العربية، كسورية ولبنان، في 21 حزيران (يونيو) من كل عام". يعني أنّ لنا، نحن الآباء، عيداً مفترضاً غداً! لكنّ ذهني التفت بشكل غامض إلى علاقة التوقيت بين عيد الأب وبين "نكسة حزيران"، وعجبت لتصاريف العقل المتشائم.
وقد ترددت قبل أن أكتب: سوف تبدو الكتابة عن "عيد الأب" نافلة قول بجنب الموضوعات السياسية "الكبيرة" التي تشغلنا الآن عن الاجتماعيات والإنسانيات. إنّنا نفكر في زيادات أسعار الكهرباء وجسامة كلف الحياة. ونفكر في اختلاف الفصول علينا، واختلاط الربيع بالخريف إلى حد أن مرضنا من تغيّر الطقس، حتى تبدو الأبوّة نفسها شأناً جانبياً باهت المعنى. ثمّ، من أين حتى لأشقائنا الذين يقال إنهم يحتفلون بالآباء في سورية ولبنان ترف الاحتفال الآن، والأولى منكوبة والآخر على فوهة بركان؟ لكنّ التردد تراجع سريعاً لصالح حقيقة أساسيّة قريبة: الأبوّةُ هي أيضاً شأن سياسي بامتياز –مثل كل شيء في الحياة.
كنتُ لاحظت صديقَين مختلفين
–رصينَين جداً- ذهبا بملابس رسمية وربطات عنق –ملابس عيد- لحضور تخرّج أبنائهما الأطفال من الحضانة (كيه. جي. وَن). وكانا يعتذران بشيء من قبيل "اللي ما بيقلّ عقله ما بفرح". لكنني كنتُ أعرف –كأب أيضاً- ما يعنيه للأب كلّ شبر يقطعه ابنه على درب الحياة. حتى تلك الخطوات الأولى من التعثر في الحروف إلى نطق العبارات وتمييز أشكال بسيطة، تفرح قلب الأب وتجعل لحظته عيداً. وباختصار، هناك عيد للآباء، لا يلتزم بحزيران أو تشرين، وإنما يأتي في أي لحظة يرى فيها الأب ابنه/ ابنته وقد حقّقا وعداً وأحرزا نجاحاً. وثمة عيد للأب، أعلى من تلقّي باقة ورد أو زجاجة عطر، كلما أحسّ بالاطمئنان على أبنائه؛ على أنهم آمنون ومتخففون من المصاعب والهموم.
عيد الآباء موضوع سياسي، واجتماعي، وإنساني، لأنّه لا عيد لأبٍ يشقى لتدريس أولاده ليراهم يلوبون أمامه مبتئسين بلا عمل، لأن مدراء الاقتصاد في بلده لا يستطيعون ابتكار شيء يفتح لهم سبل الرزق وطرق الأمل. لا عيد لأبٍ يبوحُ ابنه المتنور برأي متنور، فيُخرسون صوته ويعتقلون حريته. لا عيد للأب السوريّ الذي تقطعت بأبنائه أسباب الحياة وأحاط بهم الموت، سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، أو حتى مذنبين بجريمة الحياد. لا عيد لأب فلسطيني يُخرج ابنه إلى المدرسة في الصباح، فيغتاله المحتلون، أو يختصرون حياته إلى سجن طويل. لا عيد لأب يوسّط الناس ويتوسلهم ليجدوا لأبنائه فرصة في المنافي والغربة بعيداً عنه، لأن الوطن ضاق بهم عليهم. ولا عيد للآباء العالقين في الفقر ومناطق الاشتباك في أفريقيا وغيرها، حيث يسترق أسياد الرصاص والماس الوالد والولد بلا رفّة جفن.
يساورنا، نحن الآباء هنا، قلق مقيم على سلامة أهليتنا للأبوّة؛ على إمكانيّة توفيرنا ضرورات الحياة البسيطة لأبنائنا، من كلفة الدراسة إلى الصفاء العاطفي وصيانة العلاقة التي توترها الضغوط. وقد تعقّدت كثيراً متطلبات الأبوّة في زمن قصير. كنّا نرى آباءنا الفقراء كباراً، لأنّ حاجاتنا كانت أبسط كثيراً وأيسر من أن تجعلهم يبدون مقصرين. كانت المدارس بلا كلفة تقريباً، والألعاب قليلة ورخيصة ومتشابهة –والناس متقاربون بدون فرز اليوم الهائل. كانت قلة وسائل الإلهاء تجمعنا كثيراً مع آبائنا في السهرات المسائية، حيث نستضيء بخبرتهم لبدء تشكيل نظرتنا العالمية. ولم نكن نعجزهم بطلب الأشياء الخارقة التي يمتلكها الأولاد الآخرون، مثلما يحدث اليوم. ولا أتذكر أنني صادفت في طفولتي أباً عاطلاً عن العمل، أو ابناً متعلماً يقلق إزاء العمل وبناء أسرة.
نعم، الأبوّة أيضاً موقوفة على حدّ السياسة، لأنّ ضيق المساحات يُعجز الأبوّة ويشل أهليتها بتجريدها من فضل الحماية. ونعم، ينتظر الآباء العيد كما يفهمونه: أن تكون دنيا الأبناء أفضل من دنياهم -أكثر رحابة وأملاً، وأقل خوفاً!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة