سأحدثكم هذه المرة عن رجل الصراصير الذي ضرب لنا مثلا رائعا في القناعة والرضا، واستطاع بقدراته العلمية الفذة أن يتوصل إلي حل معضلة (بوينكير Poincare)، التي دوخت العلماء، وهي من اكبر المعضلات الرياضية، التي عرفها العالم بغموضها وصعوبتها.
يعود لبوينكير الفضل في اكتشاف (نظرية الفوضى)، التي لعبت دورًا كبيرا في دراسة مستقبل الكون، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بعقيدة الحتمية العلمية، والحقيقة إن هذه النظرية أبعد ما تكون عن الفوضى، وأقرب ما تكون إلي الانتظام والانضباط، لكنها وصفت بالفوضوية للتعبير عن تخبط الإنسان، وفشله في التنبؤ بوقوع الظواهر الكونية، وعجزه في سبر أغوار السموات والأرض. وقد تطرقت هذه النظرية إلي لغز رياضي حير العلماء قرابة مائة عام، وهو عبارة عن أحجية طوبولوجية، نأمل أن تساعد العلماء في تحديد شكل الكون، والوقوف على بعض أسراره وخباياه. تقول الأحجية: إن أي حيز ثلاثي الأبعاد خالٍ من الثقوب والفجوات، هو بمثابة كيان كروي متمدد،
 
وقد رصدت المؤسسات العلمية جوائز مادية كبيرة لمن يجد الحلول الرياضية المقبولة لهذه الأحجية الكونية شديدة التعقيد، وظلت هذه الأحجية مستعصية علي الفهم والإدراك منذ بدايات القرن الماضي، فانبري لها الروسي (غريغوري بيرلمان)، الذي استطاع بما يمتلكه من مواهب خارقة أن يتوصل للحل بأدق الطرق واعقدها، وأظهرت الاختبارات الدقيقة أنه كان على صواب. فاستحق لقب (أذكي رجل في العالم)، وفاز بالجائزة الكبرى،
 
و(غريغوري) هذا مواطن روسي في مقتبل العمر، يسكن في الإحياء الفقيرة لمدينة (سان بطرسبرغ)، عرف بميوله للعزلة، واعتكافه في شقة بسيطة خالية من الأثاث اللائق، ولا يوجد فيها شيء سوى طاولة خشبية قديمة، ومقعد مكسور، وسرير رطب، وأغطية ممزقة، ووسادة بالية، وقد تحولت الشقة إلي مأوي للصراصير والحشرات المنزلية، تسرح فيها وتمرح كيفما تشاء، وعلى الرغم من هذه الظروف المعيشية القاهرة، رفض (غريغوري) تسلم مكافأة الجائزة، التي منحه إياها معهد (كلاي) الأميركي للرياضيات، والتي كانت مرصودة لمن يجد حلا للغز معضلة بوينكير، وتبلغ قيمتها مليون دولار، ورفض تسلم ميدالية (فيلدز) القيمة من اتحاد الرياضيات الدولي في مدريد، وقال انه لا يسعى لنيل الشهرة، ولا يريد الجائزة المالية التي منحه إياها معهد (كلاي)، فلدية كل ما يريده، وعنده كل ما يحتاج إليه، وانه لا يريد أن يكون في الواجهة، مثل البغال والدببة المعروضة في حدائق الحيوان، وصرح من وراء باب شقته، انه ليس عملاقا من عمالقة الرياضيات، وانه ليس بذلك النجاح الذي يستحق عليه هذا المبلغ الكبير، وانه يفضل العيش بتقشف وتعفف في شقته الفقيرة، التي صارت وكرا للحشرات والصراصير، ويرفض التعامل مع التماسيح البشرية والقرود الآدمية، ويريد أن يمارس حياته الطبيعية مثل بقية الناس البسطاء، وهو حر في تصرفاته وقراراته الغريبة.
كان (غريغوري) قانعا راضيا بما منحه له الله، لا يتطلع إلي ما في أيدي الآخرين، ولا يطمع بمال غيره، صادقا مع نفسه ومع جيرانه، تُعْرَضُ عليه الأموال والجوائز فلا يأخذ منها شيئًا، وجد في القناعة سبيلا للراحة النفسية، فمارس حياته في هدوء وأمن واطمئنان. نجح هذا العبقري الفقير لوحده في التصدي لأعقد المشاكل العويصة، فتغلب عليها بعزيمته الصلبة، وسجل بمفرده نجاحا منقطع النظير، وشهدت له المراكز العلمية بالتفوق والذكاء، لكنه اختار أن ينضم إلي الرعيل الأول من العلماء الذين عرفوا بزهدهم وتعففهم، رافضا كنوز الدنيا وبهرجتها، في حين نجد بيننا مجاميع من البشر يتقاضون منذ أعوام أعلي المبالغ المالية السخية، ويعيشون في النعيم والعسل، ومع ذلك فشلوا في التصدي لأبسط مشاكل توزيع الطاقة الكهربائية، على الرغم من مئات الملايين من الدولارات التي راحت هدرا، وكانوا هم السبب وراء تسلل الحشرات والصراصير إلى بيوتنا، ومن المتوقع أن نكون من ضحايا الاحتباس الحراري في الصيف المقبل.

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع