في التاسع والعشرون من شهر آذار/مارس الماضي، دافعتُ عن رسالتي لنيل شهادة الدكتوراه أمام لجنة تضم العديد من أساتذة الجامعات الفرنسية والعربية ومنهم الدكتور الفلسطينيالسويسري المعروف سامي الذيب، وذلك في مبنى كلية الحقوق في جامعة غرنوبل الثانية في فرنسا.
وقد قرر أعضاء اللجنة المذكورة بالإجماع منحي شهادة دكتوراه في حقوق الإنسان بدرجة: مشرف جدا مع تهنئة من كافة أعضاء اللجنة. هذا وقد حملت رسالتي العنوان التالي:
 حقوق الأقليات في الشرق الأوسط : حالة المسحيين.
 وقد استعرضت فيها تأثير الدين والسياسة على وضع حقوق الإنسان في هذه المنطقة وخاصة مقارنة بين التشريعات القانونية في كل من مصر وسوريا ولبنان والأردن وبالطبع كان من الواضح تأثير الأيديولوجية السياسية للأنظمة الحاكمة على الوضع القانوني والسياسي للمسحيين في كل دولة.
وما يدفعني لكتابة هذه السطور هو ما دار من جدل خلال الدفاع عن رسالتي حيث احتدم النقاش بين الجميع حول مدى إمكانية إقامة دولة مدنية أو تطبيق العلمانية في الشرق الأوسط، كما تمّ توجيه اللوم لي من أحد الأساتذة لأنني انتقدت في رسالتي بعض التشريعات الدينية، المسيحية والإسلامية، المطبقة حاليا في الشرق الأوسط والمتعارضة مع حقوق الإنسان، كما انتقدني لأنني لم أتبنى نظرية المفكر السوري ميشيل عفلق.
وللأسف لم تسنح لي الفرصة بالردّ على هذه النقطة نظرا لضيق الوقت، ولذلك أودّ هنا أن أوضّح وجهة نظري حول هذا الموضوع، والتي دافعت عنها في مضمون رسالتي، وخاصة عن موقفي من الدين الإسلامي ومن المسلمين.
لقد أفردت فصلا خاصا في رسالتي أشرت فيه إلى العديد من الآيات القرآنية والأحاديث التي تدعو إلى معاملة المسحيين في دار الإسلام معاملة حسنة، وحمايتهم من كل خطر وحقهم في أن يكون لهم تشريعاتهم الدينية ومحاكمهم الخاصة في أمور الأحوال الشخصية. وإذا ما وضعنا الأمور في نصابها التاريخي، يتبين لنا بأن ذلك يشكّل قمة التسامح وخاصة في وقت كانت تُعاني فيه الأقليات الدينية البروتستانتية وغيرها في أوروبا من أبشع أصناف الاضطهاد والقتل الجماعي ( ص 129 من الرسالة ).
أمّا في وقتنا الراهن وخاصة بعد إقامة الدول الحديثة، فإنّ المعادلة السياسية قد تغيّرت وما كان يُعتبر تسامحا في ذلك الوقت فلم يعد كافيا لتحقيق مبدأ المساواة أمام القانون ولبناء مجتمع ديمقراطي حرّ. ولذلك طالبت في رسالتي بإعلاء شأن الدين وعدم زجّه في السياسة، حيث أثبتت التجربة بأن الدول تستغل الدين للاستبداد والقمع ولذلك، وكما قال المفكر خالد محمد خالد في كتابه المشهور من هنا نبدأ: إذ مزجنا الدين بالدولة فنخسر الدين ونخسر الدولة ( ص 217 من الرسالة). كما أؤكد بأن جميع الأديان قد جاءت برسالة هدفها إعلاء إنسانية الإنسان وكرامته ولذلك فإن تطبيق أي تشريع ديني بشكل يؤدي إلى خرق حقوق الإنسان يكون متعارضا حتى مع روح هذا الدين والهدف الذي جاء من أجله.
 كما انتقدت بشدة في رسالتي هذا الاتجاه المتنامي والذي يدعو إلى التعميم وإظهار جميع المسلمين بمظهر الرافض للتعايش وتقبل الآخر وأشرت إلى أن المتعصبون ينتمون إلى جميع الطوائف والأديان والأيدلوجيات وفي نفس الوقت هناك العديد من المناضلين من نفس هذه الطوائف والأديان من أجل الحوار والعيش المشترك والدفاع عن حقوق الأقليات المنتمية إلى غير دينهم، وأذكر على سبيل المثال من بين الأخوة المسلمين كل من رشيد رضا والشهيدين فرج فوده ومحمد محمد طه، وفي الوقت الحالي كل من المفكرين محمد أركون، نضال الصالح وسعد الدين إبراهيم، الخ.
كما نوهت في بحثي إلى أهمية التكافل من أجل الحدّ من التوتر الديني الذي لم يكن موجودا في العقود القليلة الماضية وإنما ازداد بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة كنتيجة حتمية للخطاب السياسي الديني المتنامي سواء كان في الغرب أو في العالمين العربي والإسلامي وأيضا بسبب غياب الحريات السياسية في الكثير من الدول العربية وإتباع معظم الأنظمة الغربية والعربية لسياسة العنف في مكافحة الإرهاب. كما تصاعد التطرف، كما أشرت في رسالتي، بسبب الخلط بين المسلمين والإسلاميين المتطرفين وهذا ما دفع الكثيرين من الفئة الأولى بتبني أفكار الفئة الثانية، وهنا لابد من الإشارة إلى أن المتطرفين يشكلون خطرا ليس فقط على الإنسانية إنما أيضا على المسلمين أنفسهم الذين لطالما كانوا، قبل غيرهم، ضحية لأعمال العنف والتطرف ( ص 19 من الرسالة).
أما بالنسبة لنظرية المفكر ميشيل عفلق، فإنني أؤيد بشدة اعتباره للإسلام جزءا لا يتجزأ من الثقافة والحضارة العربية كما أؤيد نظريته الهادفة إلى تأسيس فكر علماني مبني على فصل الدين عن الدولة ولكن أعارضه عندما اعتبر العربية كأساس أيديولوجي جامع لكل القاطنين في العالم العربي من مسلمين ومسحيين وغيرهم. أرفض هذه النقطة رغم أنها نجحت في توحيد صفوف المسحيين والمسلمين في فترة من الفترات، ولكن هذه الأيدلوجية أثبتت عجزها عن استيعاب غير العرب، كالأكراد وحتى السريانيين والأرمن وغيرهم، كمكون أساسي من النسيج العربي. ولذلك دعيت للاستعاضة عن هذه النظرية، وغيرها من الأيدلوجيات الأخرى من إسلاموية وقومجية، بإقامة تيار أيدلوجي مدني حرّ قائم على مفهوم ”القومية الإنسانية“. بما يعني بناء شرق أوسط قائم على مبدأ المواطنة واحترام حقوق الإنسان وخاصة الحرية الدينية والمساواة أمام القانون في كل دولة من دوله وهذا ما سيضمن احترام مبدأ التعددية الدينية والعرقية واستئصال كافة أنواع التمييز وتطوير التعاون المشترك الإنساني بين كافة الدول والشعوب في منطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي تُعتبر مهد لحضارات العالم كلّه تستحق أفضل مما هي عليه في الوقت الراهن.
 أمّا عن آليات تحقيق أو السعي لتحقيق هذه ”القومية الإنسانية“ فسأفرد له دراسة تفصيلية سأنشرها لاحقا على صفحات هذا الموقع.

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع