من أسوأ الأشياء أن تكتب شيئاً -للنشر- وأنت محكومٌ بمزاجات غير متفائلة –عامة وشخصية. لا أحد يُحب إضافة قلق جديد إلى الموجود. ولكن، من أين الأفكار المتفائلة في هذا المحيط من الضباب؟ وكيف لا يختلط الذاتيُّ بالعام عندما تُختصر مساحة الشخصي، وتصبح الإرادة بلا وظيفة؟
على وقع هذه الأفكار، تتداعى من خلفيّة الضجيج -بلا ترتيب- التماعات من أغنية قديمة للشيخ إمام. ولا تصل الأغنية الوعي متتابعة، ربّما بسبب تعب الذاكرة أو زحمة الأفكار، وإنما متقطعة لاهثة. أسمع المقطع الأول: "لكنْ، مِن أين المستقبلْ، والشعبُ طريدٌ وسجين؟". ثم بعده مقطع آخر: "أتحدّى، لا يا مُستقبلْ، سأعودُ بعزمٍ ويقينْ". وأحاول أن أستجمع المفقود بين هاتين العبارتين المتناقضتين، لعلّي أفهم!
لماذا هذه الأغنية بالذات، وعن فلسطين؟ غالباً لأنّ فلسطين أكبر الضائعين في حالة المراوحة الكسولة بين نفس مشاعر الهزيمة والأمل. الآن، تجرّأ العرب على مواجهة احتلالاتهم الخاصة، وشرعوا في محاولة التحرُّر الشخصي. ويبدو أنّ حروبهم المحليّة ليست أقل شراسة من حرب الفلسطينيين مع العدو الصهيوني. لكنّ لفلسطين الحقّ في الحضور أيضاً على مسرح الحدث، وهي الأكثر اشتباكاً مع القمع والاحتلالات، الخارجية والمحليّة أيضاً، ولأنّ المعنيين بها أجيالٌ كاملة تعيش أسوأ خبرة تاريخية ممكنة: إلغاء شعب. ولذلك، من المشروع أن يتساءل المرء في وقت مستقطع من هجمة المصائب العربية: وفلسطين؟ ما أخبار فلسطين؟
تساءلت، ولم أعرف الإجابة التفصيلية عن آخر ما حُرّر. فتعقبتُ عناوين اللحظة الفلسطينية في الصحيفة: "نفَق إسرائيلي يعزل العيساوية عن القدس"؛ "لا تقدم في المفاوضات وإسرائيل تتمسك..."؛ "عدد المستوطنين في الضفة يرتفع بنسبة 2.19 % في نصف هذا العام"؛ "المستوطنون يقتحمون الأقصى لفرض واقع جديد". وهناك أيضاً هدوءٌ لا يفصح عن أيّ احتجاج في الأرض المحتلة. يعني أن الحس العام محبط: "والحاضِرُ في بُطءٍ، يمشي، مَثكولَ الخُطواتِ حزينْ!".
الآن، يتداعى العرب والعجم لنصرة الشعوب المضطهدة في بلدان الثورات العربية، ويمدّون الثائرين بالأسلحة والمال والقرارات والخطابات في الهيئات الدولية. لكنّ أحداً من هؤلاء لا يعتقد جاداً بأن الشعب "السجين والطريد" له قضيّةٌ تستحقّ الدعم بمال أو سلاح. والمجاهدون من كل الألوان يجدون السُّبل لتلبية نوازع نصرة الحق، لكنّهم لا يرون في أنحاء بيت المقدس ساحة رباطٍ، ولا يُعنَون باجتراح سبيل لمواجهة الكيان الذي أصبح من أصحاب الدار!
ما أخبار فلسطين؟ سؤالٌ يستدرج سؤالاً آخر مُهملاً، لكنّه يرفّ فوق الرؤوس كل الوقت: أولاً، ما هي فلسطين الآن؟ لو سألتَ شخصاً في أيّ مكانٍ من العالم هذا السؤال، فإنّه سيحتار. هل فلسطين هي الأرض التاريخية بين البحر والنهر، التي كانت تُسمى فلسطين؟ هل هي الأرض التي تشبه صيوان الأذن، التي احتُلّت العام 1967؟ هل هي الشرحات والنقاط المنثورة الآن بين المستوطنات؟
لا حرَج على البعيد الذي لا يسمع شيئاً عن هذه البقعة في الأخبار. لكنّ السؤال نفسه يكاد يحّير العرب، والفلسطينيين، بنفس المقدار. نحن العاطفيون نكتب، من باب الأمل، أنّ العدوّ وداعميه فعلوا كلّ شيء، لكنّهم لم يستطيعوا مسح الهويّة الفلسطينية. وهو إنجاز لا فضل فيه لأحد سوى الحنين. لكنّهم استطاعوا مسح اللون الأخضر الذي كان يلون فلسطين التاريخية، وأن يختزلوه على الخريطة وفي الذاكرة، حتى أصبح لا يبين. وبفضل السياسة الرسمية الغادرة –العربية والفلسطينية- أصبحت فلسطين هي هذا الهلام الصغير في التعريف القانوني الدولي. وإذن، ما معنى نجاةُ الهوية؟ هل سيقول من يذكّره مفتاح صدئ من نسل أهل فلسطين المنفيين بعد قرن: يا أولاد، يحكى أنّ بلد أجدادكم كانت قبل مائة سنة في هذا الشريط على خاصرة المتوسط، وأن عكا وحيفا ويافا، والقدس، كانت لهم؟
في الأغنية الإمامية التي تلوي عنق اليأس، قال المغني: "أتحدى، لا يا مستقبل، سأعودُ بعزمٍ ويقينْ... وأردُّ إلى خالي روحَهْ، وأعلقُ في كتفه مِدفَعْ. أُهديه الأملَ الوضّاءْ. أمَلي في يومٍ أن أرجِعْ...".
المدفع، والأمل الوضاء، أصبحا الآن "إرهاباً" لا يمتّ إلى "فلسطين؟" التي يتفاوض عليها "القادة". ما أخبار فلسطين؟ جعلوها لا تعرف نفسها ولا أخبارها، السادة المساوِمون!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة