لست مغرما بالأرقام القياسية التي تجمعها وتصدرها موسوعة "غينيس" سنويا لأنها تهتم في الغالب بأمور هامشية ليست ذات قيمة، كالحديث عن أقصر امرأة أوأطول أوأثقل رجل، أوأضخم كلب أوأكبر صحن أوطبق أكلة من الأكلات على مستوى العالم.
وإذا كان من بين الغربيين وهم في غمرة تقدمهم العلمي والتكنولوجي، ثمة من يهتم بذلك رفاهية أوترفا أوحبا للظهور والتميز الشكلي، فقد يلتمس لهم العذر، أما نحن وشبابنا فلا مسوغ يدعونا للاحتفال بمثل هذه الأمور التي لا تقدم أوتؤخر، إذ لا فائدة ترجى فيما أظن لكي نشغل أذهاننا في الحرص على تسجيل أرقام جديدة وكسب شرف مزعوم للظهور في هذه الموسوعة، لأن الأولى التركيز على تطوير إمكاناتنا العلمية ومهاراتنا العملية والدخول في مشاريع جادة تسهم في تنمية مجتمعاتنا ونهوضنا الحضاري وتحدث أثرا حقيقيا في هذه الاتجاهات، سواء في الأطر الفردية أو الجماعية، وإصلاح الخلل وملء الفجوات الناتجة عن تراكم التخلف لعقود طويلة من الزمن.
لكنني عندما قرأت عن مشروع "بيت فلسطين للشعر" والمتمثل بإطلاق أكبر أوأطول قصيدة شعرية جماعية عن حق العودة تحت شعار " غدا سنعود والأجيال تصغي.. إلى وقع الخطى عند الغياب" غيّرتُ رأيي، وسأغيره بكل تأكيد مع كل مشروع أونشاط أوفعالية عربية وإسلامية مشابهة، حتى ولووصفتْ أووصف بأكبر أوأطول أوأضخم.. أوحتى لوسجلت أوسجل بموسوعة "جينيس" برغبة أوعدم رغبة أصحابها أوأصحابه، أولم تسجل.
إن هذه المبادرة الأدبية لـ " بيت فلسطين للشعر" بالتعاون "تجمع العودة الفلسطيني" غير المسبوقة فلسطينيا وعربيا تستحق الاحتفاء والاحتفال لأكثر من سبب:
ـ تأتي أولا في إطار الاهتمام بموضوع جاد وكبير ينبغي أن يحتل مساحة مهمة في وجدان وذاكرة أجيالنا الراهنة والمستقبلية، على المستويات العقدية والسياسية والفكرية، ألا وهوموضوع حق العودة في إطار قضية العرب والمسلمين المركزية: فلسطين المحتلة، في وقت تتزايد فيه وتيرة التآمر لكي يتم إسقاط هذا الحق أوتمييعه ببصمة النظامين الفلسطيني والعربي.
ـ المشي بعكس التيار، لأن السائد هوضعف الاهتمام بالجوانب الثقافية بشقيها الرئيسين الفني والأدبي، ووضعها في ذيل سلم أولويات المعنيين بالشأنين الفلسطيني والعربي رسميين وغير رسميين، رغم أهمية الفعل الثقافي في التوعية بالقضية الفلسطينية، وقدرته على التأثير في القلوب والعقول خصوصا إذا قدم بقوالب احترافية وراقية، ويكفي أن نتذكر سحر قصيدة لعبد الرحيم محمود مثل " سأحمل روحي على راحتي.." أوأخرى لفدوى طوقان أوعملا شعريا مطبوعا لمحمود درويش أورسم كاريكاتير متألق يختصر آلاف الكلمات والحروف للفنان ناجي العلي وبطله "حنظلة"، أونستعرض بعجالة أعمالا كبرى لأدباء وفنانين عرب، أوكرائعة " زهرة المدائن" لفيروز، والعيون التي كانت ترحل عبر كلماتها إلى القدس كل يوم، حيث يأتلف فيها جمال الكلمات وسحر الألحان وعذوبة الصوت الشجي معا. وامتدادا لما سبق، تحريك ملف ندرة الأعمال الفنية التي تعالج القضية الفلسطينية بقوة وعمق مؤثرين مقارنة بما صدر من إنتاج فني وأدبي في الفضاءين الفلسطيني والعربي كالدراما والمسرحيات والأناشيد والروايات والأفلام عبر أكثر من ستة عقود من الزمن، هوعمر النكبة الفلسطينية منذ احتلال الأراضي التي بارك الله حولها عام 1948، ويكفي أن نشير على استحياء إلى أعمال درامية نادرة تعد على أصابع اليد كـ " التغريبة الفلسطينية" التي أنتجت قبل سنوات قليلة من تأليف الدكتور وليد سيف وإخراج حاتم علي.
ـ ثمة أمر آخر وهوأن الجوانب الثقافية في الشتات الفلسطيني مهملة لذا قرر "بيت فلسطين للشعر" إطلاق القصيدة الجماعية بحسب مدير البيت الشاعر سمير عطية، موضحا أن البيت بدأ بالتواصل مع الشعراء الفلسطينيين والعرب وأن هناك مشاركات من اليمن وسوريا وفلسطين ولبنان والكويت والإمارات وصلت إليه بالفعل.
ـ في الإطار الزمني سيكون هناك خصوصية للقصيدة (المعلقة ) لأنها جاءت متزامنة مع الذكرى الحادية والستين لنكبة فلسطين ومع الاحتفالات بالقدس عاصمة للثقافة العربية، مما سيمنح القصيدة التي ستصدر في ديوان دلالات مهمة.
ـ أخيرا كان بيت فلسطين للشعر موفقا حينما طلب من الشعراء معارضة قصيدة الشاعر عبد الكريم الكرمي "أبوسلمى"، بحيث تكون المساهمة من 5 10 أبيات، لأن هذا الشاعر من الأسماء اللامعة التي حفرت اسمها في ديوان الشعر العربي والفلسطيني باقتدار، وتعتبر قصيدته " سنعود" من أرق وأرقى ما كتبه شعرا وأكثره عذوبة، عبر فيها عن حب المتيم لأرضه وشوق الملتاع للعودة إلى مرابع الأهل ومدارج الصبا، بكل ما يختزنه القلب من ذكريات جميلة وما يعتلج في الصدر من آهات مكلومة، وبنبرة لا تخلومن الثقة الأكيدة باللقاء.
إن "المعارضات الشعرية" فن معروف في تراثنا الأدبي حيث صاغ الشعراء قصائد جميلة معارضين (محاكين) من يحبون من الشعراء الذين سبقوهم من خلال النظم على نفس الوزن ( البحر) والقافية وأحيانا بنفس المضمون، مثلما فعل أمير الشعراء أحمد شوقي حينما عارض قصيدة البوصيري "البردة " والتي مطلعها:
أمن تذكر جيران بذي سـلم مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
بقصيدته " نهج البردة" والتي مطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلم أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم
سنكون بانتظار ولادة هذا العمل الأدبي حيث نتوقع أن يحاكي الشعراء قصيدة " أبوسلمى" بعد أن يحلّقوا في فضاءاتها الجميلة ليكون المولود القادم بنفس الروعة والجمال إن شاء الله.
ليس المهم أن تكون القصيدة التي ستظهر أطول قصيدة عربية ( ربما تفوق بطولها المعلقات) أوأكبر "معارضة شعرية" لتسجل في موسوعة الأرقام القياسية.. مايهمنا أن نفتش عن أعمال جديدة وموسوعة جديدة تهتم بتحقيق أكبر أوأعظم تأثير في المجالات المعرفية والثقافية المختلفة لأن هذا الأنفع لواقعنا العربي الراهن.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب الآداب