بسم الله الرحمن الرحيم
الإحساس بالجمال والتعبير عنه ،فطرة طبيعية ، وضرورة إنسانية ، والإنسان
الذي يحجز مشاعره بداخله ولا يريد الإفصاح عنها ، هو إنسان يتحدى فطرته
وطبيعته ، ويسكت صوت الحياة بأعماقه.
وساعتها سوف يفقد نفسه بل سوف يفقد الحياة بكل ما فيها من جمال وجلال ولقد
وجهنا الله عز وجل إلى الحياة والنظر والتفكر في خلق السموات والأرض ، وجعل
ذلك قرين الإيمان والتعقل ، قال تعالى \" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (191) ( 1 ) .
ثم لفت –سبحانه – أنظارنا إلى بعض صور الإبداع والجمال في الكون فقال \"
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا
وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا
لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
( 2 ) .
كما وجه –سبحانه وتعالى – أنظارنا نحو أنفسنا نتأمل جمال الصنعة ثم نسبح
الصانع \" الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ
مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) ( 3) .
كما لفت – تعالى – أنظارنا نحو ما أبدعه في أنفسنا وما أحاطنا به من جمال
فقد أودع فينا فطرة التعبير عن هذا الجمال وهذا التعبير لابد أن يكون متسقا
مع بديع الصنعة وهذا ما عناه الله بجمال الكلمة الطيبة حين قال :\" أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) ( 4 ) .
ومن هنا كانت تعاليم الإسلام أداة لرفع المستوى العقلي والفكري للمسلم إلى
درجة كبيرة حيث جعلته يتذوق الجمال ويعبر عنه في أسلوب متألق راق .
ولذا كان للفن الإسلامي دور كبير في حياة الناس ؛ فالإسلام الذي أعلى من
شأن القيم والأخلاق والمبادئ السامية قد جعل الفنانين يرتفعون مع تلك القيم
فاتسعت نظرتهم إلى قيم الخير والحق والجمال في هذه الحياة .
وإذا كان الدين ينظر إلى الحياة على أنها زينة وأن الواجب ألا ننسى نصيبنا
فيها فإن الفن الجميل \" يقاس نصيبه من الدين بنظرة الدين إلى الحياة \" (
5 ) .
وإذا كان كل فن أصيل يكون إنسانيا لتعبيره عن النفس الإنسانية في جوهرها
فإن الفن الإسلامي كذلك إضافة إلى أنه فن متميز بطابعه الخاص وهى الصبغة
التي أضافها عليه الإسلام بما فيه من تعاليم شامخة ومثل رفيعة حتى صار ذلك
الفن الذي \" يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود أو هو
التعبير الجميل من الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام لها\" ( 6
) .
ونحن الآن أشد ما نكون حاجة إلى الفن الملتزم ونعني بالالتزام هنا الالتزام
الذي يكون في نطاق الحرية التي أباحها الإسلام ؛ فهو الالتزام \" الذي لا
يضع قيدا على فكر ولا يعطل مسيرة أي جهد علمي ولا يصادر إبداعاتنا , إنه –
إلتزام – يحرر الطاقات الإنسانية لكي تؤدى دورها وتحقق ذاتها. ( 7 ) .
وهذا الالتزام أيضا هو الذي \"يحرر الفن من قواعد الجمود ويحرر الفكر من
أسار التقاليد ويحرر العواطف من سورة الشهوات المدمرة . ( 8 ) .
والفنان المسلم بطبعه إنه نموذج للفنان الباحث عن الخير والحق والجمال في
حدود عقيدته إما ترتضيه قيمه من وسائل وأدوات يوصل بها هذا الفن ومن هنا
فالأديب المسلم \" يساعد على تكوين محيط تكون فيه التقوى وخشية الله من
سمات أفراده . ( 9 ) .
فالشعر الذي هو وسيلة من وسائل التعبير , وفن من الفنون الراقية ظل يعبر عن
معاناة الشاعر ومأساته ويجد فيه تسليته وتعزيته . يقول خبيب بن عدى قبل
موته معزياً ومسلياً نفسه:
ولست أبالى حين أقتل مسلما* * * على أي شق كان في الله
مضجعي
وذاك في ذات الإله بأن يشأ* * * يبارك على أوصال شلو ممزع
وها هو عثمان
بن مظعون يرد جوار الوليد بن المغيرة ويقول :
الله لن أرضى إلا بجوار الله * * * ولا أريد أن أستجير
بغيره
وحدثت في يوم مشادة بينه وبين أحد المشركين فلطمه على عينه فأصابها فلاموه
على تركه جوار الوليد فقال بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما
أصاب أختها في الله وانشد:
فإن تك عيني في رضا الله نالها * * * يدا ملحد في الدين ليس
بمهتدى
فقد عوض الرحمن منها ثوابه* * * ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد
فإني وإن قلتم غوى مضلل * * * لأحيا على دين الرسول محمد
أريد بذاك الله والحق ديننا* * * على رغم من يبغى علينا ويعتدي ( 10 ) .
وهكذا كان
الشعر سلوى للشعراء يجدون فيه الراحة والعزاء يقول حسان بعد أن كف بصره :
إن يأخذ الله من عيني نورهما * * * ففي فرادى وسمعي منهما
نور
قلبي ذكى وعرض غير ذي دخل* * * وفى فمي صارم كالسيف مأثور ( 11 ) .
ولقد كان
الشعر كذلك وسيلة من وسائل الترويح عن النفس وقطع ساعات السأم بشيء من
الشعر ، يقول سلمة بن لأكوع خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن لأكوع ألا تسمعنا من هنهاتك
فنزل يحدو بالقوم ويقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا* * * ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فدى لك ما اقتفينا * * * وثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا * * * وإنا إذا أصبح نبا أبنيا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السائق ؟ قالوا
عامر فقال : رحمه الله فقال رجل من القوم وجيت وجيت يا رسول الله لعامر لما
أمتعنا به. ( 12 ) .
وفي فوائد أبي الفرج مسعود بن الحسن بن القاسم الثقفي عن الحسن: \"أن قوماً
أتوا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقالوا: \"يا أمير المؤمنين، إن لنا
إماماً شاباً إذا صلى لا يقوم من المحراب حتى يتغنى بقصيدته\"، قال عمر:
\"فامضوا بنا إليه، إنا إن دعوناه يظن بنا أنا تجسسنا، نريد قبح أمره، فقام
عمر رضي الله عنه والقوم معه حتى إن قرعوا بابه عليه، قال: \"يا أمير
المؤمنين، ما الذي جاء بك؟ إن كنت جئتني في حاجتي فقد كان الواجب عليّ أن
أتي، وإن تكن الحاجة لك، فأحقّ من عظمنا خليفة خليفة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأمير المؤمنين، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم\"، قال:
\"بلغني عنك أمر ساءني\"، قال: \"فإني أعيذك بالله يا أمير المؤمنين ما
الذي بلغك عني؟\"، قال: \"بلغني عنك أنك تتغني بين يديك\"، قال: \"نعم، قال
يا أمير المؤمنين، [إنما عظة] أعظ بها نفسي، قال له عمر: \"قل\"، قال:
\"إني أخاف الشُّنعة أن أفعل بين يديك\"، قال له: \"قل فإن كان حسناً قلت
معك، وإن كان قبيحاً نهيتك عنه\". قال: فأطرق الفتى ثم أنشأ يقول:
وفؤادي كلما نبهته * * * عاد في اللّذات يبغي تعبي
لا أراه الدّهر إلا لاهياً * * * في تماديه فقد برح بيَ
يا قرين السّوء ما هذا الصّبا * * * فني العمر كذا باللّعب
وشباب1 بان مني فمضى * * * قبل أن أقضي منه أربي
ما أرجي بعده إلا الغنى * * * ضيق الشّيب عليَ مطلبي
ويح نفسي لا أراها أبداً * * * في جميل لا ولا في أدب
نفسي لا كنت ولا كان الهوى * * * راقبي مولاك وخافي وارهبي
فبكى عمر رضي الله عنه وقال: \"هكذا ينبغي كلّ من يكره\"،
قال عمر رضي الله عنه: \"وأنا أيضاً أقول:
نفسي لا كنت ولا كان الهوى * * * راقبي مولاك وخافي وارهبي
( 13).
إن حاجتنا للفن تنبُع من وظائف الفن ذاته: وللفن وظائف
يؤديها داخل المجتمع المسلم، ووظائف يؤديها خارجه، ومن الوظائف التي يؤديها
داخل المجتمع:
أ- وظيفة ترويحية في الأعراس والأعياد والمناسبات المختلفة، وهو ما تقدم أن
حثَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- عليه، وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
قال: \"روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت.
ب - وظيفة تثقيفية يجب أن يؤديها الفن في المجتمع فينقل إليه النافع من
الثقافات والمعارف.
ج- وظيفة تربوية؛ حيث إن المناخ الفني المحيط بالإنسان لاسيما النشء
والشباب يشكِّل بيئةً تربويةً تؤثر فيهم بشكل مباشر، وتؤثر كذلك في القيم
التي يكتسبها الأفراد في المجتمع.
أما الوظيفة الخارجية للفن فيعتبر الفن هو الوعاء الذي ننقل من خلاله
ثقافتنا وتراثنا وقيمنا إلى الآخرين، ونعرفهم بنا عن طريق هذا الوعاء
الإبداعي.
فالفن له دوره المهم داخل المجتمع من حيث إنه يقوم على تشخيص القضايا
والمشاكل والظواهر السلبية التي يعانيها المجتمع وتقديم الحلول لها ،
بالإضافة إلى تشكيل الوعي الثقافي لدى الأفراد، وبالتالي فإن الفنان حامل
رسالة الفن يقع على عاتقه القيام بهذا الدور التثقيفي والتنويري داخل
المجتمع، غير أن ما نلاحظه وجود ضعف عام في تقديم هذا الدور، إذ لا نكاد
نرى دوراً فاعلاً للفن والفنان داخل المجتمع سوى أن الفن مجرد ترفيه
واستمتاع ولا شيء غير ذلك وكل ذلك يرجع إلى ضعف الثقافة بشتى أنواعها في
المجتمع وكذلك ضعف الإيمان بقدرتها على تغيير الواقع وإحداث التغيير
المنشود.
ومن هنا فنحن نريد فنا ملتزما , ينبع من تعاليم الإسلام ومن العادات
والتقاليد المحترمة .
نريد فنا يدعوا إلى التوبة والغفران لا إلى الكفر والعصيان .
فيترنم صاحبه ونترنم معه :
إلهي لا
تعذبني فإني* * * مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلةٌ إلا رجائي * * * وعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا * * * وأنتَ عليّ ذو فضلٍ ومنِ
إذا فكرتُ في ندمي عليها * * * عضضتُ أناملي وقرعتُ سني
أجنّ بزهرة الدنيا جنونا * * *وأقضي العمرَ فيها بالتمني
ولو أني صدقت الزهدَ فيها * * * قلبتُ لأهلها ظهرَ المِجنّ
وبينَ يديّ مٌحتبسٌ طويلٌ * * * كأني قد دُعيتُ له ، كأني
يظنُ الناسُ بي خيراً وإني * * * لشرُ الناسِ ، إن لم تعفُ عني
ويبكي توبة ونبكي معه :
أنا العبد
الذي كسب الذنوبا * * * وصدته المعاصي أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزيناً * * * على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد الذي سطرت عليه * * * صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسيء عصيت سراً * * * فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري * * * فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا * * * وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا العبد الذليل ظلمت نفسي * * * وقد وافيت بابكم منيبا
أنا العبد الحقير مددت كفي * * * إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدار كم عاهدت عهداً * * * وكنت على الوفى به كذوبا
فيا مولاي جد بالعفو وارحم * * * عبيداً لم يزل يشكي الذنوبا
وسامح هفوتي وأجب دعائي * * * فإنك لم تزل أبداً مجيبا
نريد فناً يدعو إلى السمو والطهور لا إلى الفسق والفجور .
يا رب إن عظمت
ذنوبي كثرة * * * فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن * * * فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك ربي كما أمرت تضرعا * * * فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجاء * * * وجميل عفوك ثم أني مسلم
نريد فناً يدعو إلى التأمل والتفكر في مخلوقات الله لا إلى
الإعراض عن جمال الحياة .
يا مَنْ يَرى
مَدّ البعوض جناحها * * * في ظلمة ِ الليل ِ البهيم ِ الأليل ِ
ويرى مناط عروقها في نحرها * * * والمخّ من تلك العظام النحّل ِ
ويرى خريرَ الدم ِ في أوداجها * * * متنقلاً من مفصل في مفصل ِ
ويرى وصول غذا الجنين ببطنها * * * في ظلمة الأحشا بغير تمقل ِ
ويرى مكان الوطء من أقدامها * * * في سيرها وحثيثها المستعجل ِ
ويرى ويسمع حس ما هو دونها * * * في قاع بحر ٍ مظلم ٍ متهول ِ
امنُنْ عليَّ بتوبة ٍ تمحو بها * * * ما كانَ مني في الزمان الأول ِ
نريد فناً
يدعو الأمة ويناديها أن تصحو من سباتها , وتستيقظ من غفلاتها فينشد صاحبه :
صمتاً أصِيخي
واسمعي يا أَمّتي* * *ما عُدت أصبر أن يموتَ بياني
شِعري يُراودُني لأقذفَ جمرةً* * *مما حوى صدْري منَ النيران
ما عاد يحْوِيني سُكوتي والبُكا* * *أنا لستُ مَجْبُولاً على الخُذلانِ
أنا في يميني الشَّمسُ تُشْرقُ عزةً* * *وأنا الثُّريا همَّةً وتفاني
أنامُسْلمٌ والمَجدُ يقْطُرُ كالنَّدى* * *والعِزُّ كُلّ العزِّ في إيماني
أنا للحياةِ رواؤها ودواؤها* * *وأنا الشِّهابُ إذا بدى سَتراني
يا أمّتي انتزعوا صباحَكِ عنوةً* * *فمتى يعود الصُّبْح للشُطْآن
يا أمّتي آن الأوانُ لصحوةٍ* * *فاستبشِري بالفجر في بُرْكاني
يا أُمّتي انتَزِعي لِواءَ حضارةٍ* * *فالكون في صَخَب بلا رُبَانِ
ما عاد يعرف للرّشادِ طريقةً* * *أنت المؤمّل...أنت لي عنواني
حارت عقول النّاس بين مذاهبٍ* * *لا تهتدي بالنور من قرآني
تجري وراء الغرب في لهثِ وهل* * *سيحقّقُ الغربًًُُ الغريق كياني
تجري وفي العينين ألفُ تساؤلٍ* * *عزّ الجوابُ .. فذاك ما أبكاني
عبثت بنا أيدي اليهود وحفنةً* * *ممن يبيع الدين للشيطانِ
في كل يوم تُستباحُ مدينةٌ* * *أين الذين تهزّهم أحزاني ؟ّّ!
أين الذين تشدّقوا بعروبةٍ* * *وجنين تصفعُ وجهَ كل جبانِ
أين الحقوق وقد أُبيدتْ أمةٌ؟!* * *وأنا الملامُ إذا صرختُ: كفاني
سَل مدّعِي حفظ الحقوق لهرَّةٍ* * *هلْ هرةٌ أولى من الإنسان
كلُّ الحقوقِ مُصانةٌ في عُرْفِهِم* * *إلا حُقوقَكِ أمّةَ القرآن!
إني وإن يكن البكاء نقيصة* * *أبكي لحالك سائر الأزمان
وآظلُّ أنْسُجُ بالقصيدةِ بَيْرَقاً* * *حتّى يرفرفَ إن بدتْ أكفاني
نريد فناً يدعو إلى الإنتاج والعمل لا إلى الخمول والكسل.
يا أخ الإسلام
يا رمز البشائر * * * يا ضياء الفجر رغم الجاهلية
إن تكن دارت على الحق الدوائر* * * فلنا في صفحة المجد بقية
أن تكن قد عطلت فينا الشعائر* * * فشعور الصدق تذكيه الحمية
أن يكن جرة الدعاة اليوم الغائر * * * فقلوب القوم مازالت فتية
أن يكن في بطيء العزم خائر * * * يعشق الكأس ويرضى بالدنية
أو كفور قد أتى كل الكبائر* * * منكر تلك الحياة الأخروية
أو جهولا قد مشى في الدرب * * * حائرا لا يدري معنا القضية
فلنا في ظلمة الليل ضمائر * * * تعشق الموت وتزهو بالمنية
كم أبي بجراح الكف سائر * * * يقتفي آثار سعد الأبية
بقلوب مخلصات وسرائر* * * لم تكبلها قيود دنيوية
نريد فناً يدعو إلى التفاؤل والأمل لا إلى الجنون والخبل.
فينشد وننشد معه :
إذا اشتملت على اليأس القلوب * * * وضاق بهمها الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت * * * وأرست في أماكنها الخطوب
ولم ير لانكشاف الضر وجه * * * ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث * * * يجئ به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت * * * فموصول بها الفرج القريب
نريد فناً يدعو إلى يناجي الخالق مناجاة العاشقين المحبين
لا شكوى القانتين المعترضين .
فيقول صاحبه :
يا من يرى في
الضمير ويسمع * * * أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها * * * يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن * * * أمنن فإن الخير عندك أجمع
مالي سوى فقري إليك وسيلة * * * فبالافتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي لبابك حيلة * * * فلئن رددت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه * * * إن كان فضلك عن فقير يمنع
حاشا لجودك أن تقنط عاصيا * * * فالفضل أجزل والمواهب أوسع
ويقول :
إلهي ليس لي
إلاكَ عَونا * * * فكن عَوني على هذا الزمان
إلهي ليس لي إلاكَ ذُخرا * * * فكن ذُخري إذا خَلَت اليدان
إلهي ليس لي إلاكَ حِصنا * * * فكن حِصني إذا رامٍ رَمَاني
إلهي ليس لي إلاكَ جاها * * * فكن جاهي إذا هاجٍ هجاني
إلهي أنت تعلم ما بنفسي * * * و تعلم ما يجيش به جَناني
فهب لي يا رحيم رضا و عفوا * * * إذا ما زَلَّ قلبي أو لساني
إلهي ليس لي إلاكَ عِزاً * * * فكن عِزِّي و كن حصن الأمان
نريد فناً يدعو إلى مكارم الأخلاق لا إلى المداهنة والنفاق
.
فيقول :
أذن يا بلال
فإن الفجر قد جانا * * * وأيقظ الناس نومانا وسكرانا
إذن يا بلال أذان الحق يغمرنا * * * وأسمع الكون تكبيرا وقرآنا
أذن ببدر بكثرتهم وقلتنا * * * بضراعة المصطفى ثقة وإيمانا
وبصبر من هاجروا في الله أو بذلوا* * * النفس والمال والآهلين قربانا
يوم أراد أبو جهل وعصبته * * * أن يشرب الخمر والألحان نشوانا
هم قد أرادوه فصلا من مهازلهم * * * وأراده الله إعزازا وفرقانا
ويقول :
سأحمل روحي
على راحتــي* * * وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديــــق* * * وإمّا مماتٌ يغيظ العــدى
ونفسُ الشريف لها غايتـــان* * * ورود المنايا ونيلُ المنـــى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن* * * مخوف الجناب حرام الحمى
بقلبي سأرمي وجوه العتاة* * * فقلبي حديدٌ و ناري لظـى
وأحمي حياضي بحدّ الحســام * * * فيعلم قومي أنّي الفتـــى
نريد فناً يدعو إلى البر والتواصل لا إلى العقوق والتهاجر .
فيقول قائله :
أماه حاشا
مهجتـي تنسـاك * * * يا من رضا الرحمن من مرضاك
ظللتني في رحمة الله التي * * * كرمت بها روحي بطـول بقــاك
شذا بفخـارك الـركـب * * * وأزهـر باسمـك الـدرب
أيــا أمــي أيــا أمـــي * * * ليـحـفـظ قلـبـك الــرب
فأنـت بظلـمـتـي بـدر * * * وأنـت بواحـتـي عـطــر
من المولى لـك الأجر * * * ومنـا الشـكـر والـحـب
ويقول :
أحسن لها ..
أحسن لها * * * أحسن لها .. أحسن لها
أحسن لها .. أحسن لها * * * أحسن لها .. أحسن لها
أمي و أمك يا فتى أحسن لها * * * البر بالأم الحنونة واجب
وهناً على وهن تحملت الأذى * * * والطفل في أحشائها يتقلب
من كان يرتقب الليالي ساهراً * * * من كان عن أحزاننا يتجنب
أمي و أمك يا فتى أحسن لها * * * البر بالأم الحنونة واجب
وهناً على وهن تحملت الأذى * * * والطفل في أحشائها يتقلب
وإذا الهموم تجمعت وتكاثرت * * * فوراً إلى صدر الحنونة أهرب
أمي و أمك يا فتى أحسن لها * * * البر بالأم الحنونة واجب
وهناً على وهن تحملت الأذى * * * والطفل في أحشائها يتقلب
أولى الخلائق باستلام مودتي * * * أمي و أمي ثم أمي فالأب
ونحن لا نريد فنانا هائما حائرا لا يدري طريقه ولا هدفه في
الحياة ولا الغاية التي خلق من أجلها, ففي بعض الأغاني ما فيها من المحادة
لله ولرسوله، ومن التعدّي على رسل الله الكرام، ومن تمييع للمعاني السامية
والمثل الرفيعة، ومن الاعتراض على رب العالمين والاعتداء عليه وعلى ما هو
مكتوب في اللوح المحفوظ، وغير ذلك مما يردده الجيل صباحًا ومساءً، فيصحو
الشاب وينام على أنغامه، بل أصبح الكثير لا غنى له عن الغناء وسماعه.
كما يقول الحائر :
جئت لا أعلم
من * * * أين ولكن أتيت
ولقد أبصرت قدامى * * * طريقاً فمضيت
وسأبقي سائراً إن * * * شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت * * * طريقي لست أدري
أما نحن فنعلم الغاية التي لأجلها خلقنا وهو أن نكون عبيداً
لله، عابدين له خاضعين لا نشرك به شيئاً، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ\" . ( 14 ) .
لَيْسَ
الغَريبُ غَريبَ الشَّأمِ واليَمَنِ* * * إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ
والكَفَنِ
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتـِهِ * * * على الْمُقيمينَ في
الأَوطــانِ والسَّكَنِ
سَفَري بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَنـي * * * وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والمـوتُ
يَطلُبُنـي
وَلي بَقايــا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها * * * الله يَعْلَمُهــا في
السِّرِ والعَلَنِ
مـَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني * * * وقَدْ تَمـادَيْتُ في
ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
تَمُرُّ سـاعـاتُ أَيّـَامي بِلا نَدَمٍ * * * ولا بُكاءٍ وَلاخَـوْفٍ ولا
حـَزَنِ
أَنَـا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً * * * عَلى المعاصِي
وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُنـي
يَـا زَلَّةً كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ * * * يَـا حَسْرَةً بَقِيَتْ
في القَلبِ تُحْرِقُني
لا نريد فنانا مخموراً يعيش حياة السكارى الحيارى لا يدري
ما يقول وإن قال قال :
ليلنا خمر
وأشواق تغني حولنا * * * * وشراع سابح في النور يرعى ظلنا
كان في الليل سكارى وأفاقوا قبلنا * * * ليتهم قد عرفوا الحب فباتوا مثلنا
بل نريد فنانا يقول :
أقرأ كتاب
الله ترقـى جنانـه * * * وتنل عظيم الأجر والغفـران
رتله روي القلب من نفحاتـه * * * كالماء يروي لهفة العطشـان
أسعد به أبويك في أخراهمـا * * *قلدهما مـن تيجـة التيجـان
عطر زوايا البيت مـن آياتـه * * * تزكى كنفح المسك والريحـان
في كل حرف قد جزيت باجره * * * ضعفا من المولى عظيم الشان
قد خصه الرحمن أعظم رتبـة * * * أعظم برتبـة حامـل القـران
ياحاملا آي الكريـم بصـدره * * * بشرى فتلك هديـة الرحمـن
فاتلوه يغشاك العظيم بفضلـه * * *تعلوك منه سحائب الإحسـان
ويشع وجة طهارة ووضائـه * * *والقلب يملأه سنـا الإيمان
والروح إن عمرت بكل فضيلة * * * لا لن تنلها قبضـة الشيطـان
تحياه في دنياك عيش كرامـة * * * وتنال في أخراك علو جنـان
هو جنة هو رفعـة وهدايـة * * * وسبيل إسعاد ودرب أماني
لا نريد فنانا يرى عزه ومجده في العشق المحرم , بل نريد
فنانا يرى عزه في إيمانه وقرآنه . فيقول :
عزي إيـماني
لفـظـي قرآنــي * * * عزي إيـماني لفظي قـــــرآنــي
وسلوكي أدبُُ ربي ربانــــــي* * *وسلوكي أدبُُ ربـي ربــــانـــي
الصدقُ شعـاري في كل أمــوري* * *لا يـرضـى أبداً بالزورِ ضمـيـري
الوهن ُمعـيبُُ عارُُ في عـُرفـي* * *في نصـرتِ دينـي لأخـشـى حـتـفـي
الله مُرادي والذكرُ عتــادي* * *وكـلامُ نبـي فــــــوزي ورشـادي
إن الفن الملتزم له دوره الذي لا ينكر في نهضة الأمة
واستعادتها لمجدها وعزها , وإن الفن الملتزم هو وسيلة مبدعة للتعبير عن
آلام الأمة وآمالها , وإن الفن الملتزم هو الذي يرقى بالأحاسيس والمشاعر ,
ويسمو بالوجدان , فيجعل الناس يعيشون حياة العز والإيمان لا حياة العصيان
والخذلان , فالفن الملتزم طاعة وعبادة وسمو وسيادة .
-----------------------------
الهوامش :
1- سورة : آل عمران .
2- سورة : ق .
3- سورة : الانفطار.
4- سورة : إبراهيم .
5- العقاد : التفكير فريضة إسلامية ص 71 طبعة دار الهلال.
6- محمد قطب : منهج الفن الإسلامي ص 6 الطبعة السادسة ، دار الشروق سنة
1403 هـ - 1983 .
7- نجيب الكيلانى : مدخل إلى الأدب الإسلامي ص 84 .
8- محمد عبد الواحد حجازي: موقف الإسلام من الفنون ص 299 الهيئة المصرية
العامة للكتاب لسنة 1984 .
9- أبو الحسن النووي : مجلة الوعي الإسلامي عدد334 .
10- راجع: ابن القيم الجوزية: زاد المعاد جـ 2 ص 109 .
11- أحمد سويلم : مسلمون هزموا العجز ص 44 الطبعة الأولى الدار المصرية
اللبنانية سنة 1411 هـ ، 1991 .
12- ابن القيم الجوزية : زاد المعاد جـ 2 ص 133 .
13- أبو الفرج: الفوائد ق 98 / ب، 99 / أ، عن الحسن مرسلاً وبنحوه في ابن
عساكر: تاريخ دمشق جـ 13 / ق 113 عن الحسن, ابن عبد الهادي المبرد : : محض
الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب 2/618.
14- سورة : [الذاريات:56].
|