تعريف مفهوم "الأمن القومي/ الوطني" فضفاض جداً، ولا يمكن اختصاره في عبارة جامعة مانعة. هناك من يعرّفونه على أساس حربي، مثل وولتر ليبمان في العام 1943، والذي قال إن "الأمة تكون آمنة عندما لا يترتب عليها أن تضحي بمصالحها المشروعة من أجل تجنب الحرب. وأن تكون قادرة، إذا واجهت تحدياً، على الحفاظ على مصالحها بالحرب". وعرّفه العالم السياسي هارولد لاسويل في العام 1950 من منظور الإكراه الخارجي: "المعنى المميز للأمن القومي يعني التحرر من الإملاء الأجنبي". وهناك من يعرّفه على أساس القِيَم، كما فعل آرنولد وولفرز في العام 1960: "الأمن القومي يعني موضوعياً غياب التهديدات الموجهة للقيم المكتسبة، ويعني ذاتياً غياب الخوف من تعرض هذه القيم للهجوم". وفي العام 1996، عرّفته كلية الدفاع الوطني الهندية بالعناصر المتصلة بالقوة الوطنية: "الأمن الوطني هو مزيج مناسب وقوي من المرونة والنضج السياسي، والموارد البشرية، وبناء القدرات الاقتصادية، والكفاءة التكنولوجية، والقاعدة الصناعية، وتوافر الموارد الطبيعية، وأخيراً، القوة العسكرية". وأخيراً، أضيف عناصر الأمن الاجتماعي والبيئي إلى الحسبة.
في ضوء أي تعريف مما سبق، أين نحن من الأمن القومي؟ أين القدرة على حماية المصالح بالحرب؟ أين التحرر من الإملاء الخارجي؟ أين أيٌّ من عناصر القوة الوطنية التي ذكرها التعريف الهندي؟ كل التعريفات السابقة في واد ونحن في واد آخر. ولذلك، يخطر لي أن أقترح تعريفاً للأمن القومي أظنه الأقرب إلى حالتنا: الأمن القومي هو ضمان استقرار الوطن باستقرار السلطة، بحيث لا يكون هناك أي صوت معارض أو منتقد لما يرتئيه أصحاب العصمة المسؤولون. نقطة!
في بلداننا، لا يرون تهديداً للأمن القومي في انعدام الفرص، ونهب الأموال العامة، والاستبداد بالسلطة، واستئثار القلة بالامتيازات، وتبعية القرار الوطني، والهوان أمام القوى العسكرية العدوة والمحتلة، وتراجع صحة الناس وتعليمهم ودخولهم وسبل عيشهم. وإنما الذي يهدد الأمن القومي هو فقير يرفع صوته شاكياً شدة حاجته وضيق ذات يده؛ وهو مفكر يقترح تغييراً، وفنان يرسم لوحة "معادية"، وناشط يشير إلى انتهاكات لحقوق إنسانية، وصحفيّ يقع على عيبٍ أو موطن فساد فيكشفه، بل أي مواطن إذا زاحم بالخطأ متنفذاً في الطريق، ثم تدبر الأخير اعتقاله بتهمة محاولة اغتيال الأمن القومي المتمثل في شخصه.
الأمن القومي، بكل هذا الإغراق في الانحياز إلى أمن فئة خاصة، وفي المحلية، حتى يصبح كل الخطر متمثلاً في المواطنين أنفسهم، أصبح متطفلاً إلى درجة التدخل في صياغة عباراتنا اليومية. أصبحنا نخاف أن يزل اللسان، فيحكي سياسة، فيهدد الأمن القومي ويذهب بصاحبه إلى ما وراء الشمس. وحتى إذا انتقد المرء ممارسات وعادات وترتيبات غير حضارية، فإنّه يشكل خطراً على الأمن القومي لأنّه يستفزّ المشاعر المتكلسة التي عفى عليها الزمن، فيخاطر بإقلاق استقرار البلد والأمة.
إذا أراد المرء أن يعرف كم هو الحرص على الأمن القومي مدهش، فليعمل في الصحافة. إذا اكتشف الصحفي غشاً وعيباً في الأداء الطبي وأراد أن يكشفه، قيل له أنه سيضر بالسياحة العلاجية، فالأمن القومي. وإذا وقع على قضية تلوث كبير في الماء أو الغذاء، قيل له أن يسكت حتى لا يخيف الناس، فيثيرهم، فيهدد الاستقرار ويخرب خطط الحكومة. وإذا اكتشف غشاً في تصنيع الأدوية، فيجب أن يتكتم حتى لا يضرّ بالصادرات والصناعة الوطنية. وإذا وجد خللاً في السياسة الخارجية وأراد أن يشير إليه أو يقترح، قيل له أنه سيخرب علاقة البلد مع الأشقاء أو الأصدقاء، ويحرمنا من المنح والأعطيات. ولا حدّ للخطوط والمحرّمات التي تحتمي كلها خلف ستار الأمن القومي واحتمال التأثير في الرأي العام. لماذا توعية الرأي العام وتعريفه بالحقيقة تهدد الأمن القوميّ؟
كل ما يمارس بحجة صيانة الأمن القومي، هو بالضبط ما يهدد الأمن القومي: القمع يسبب الاحتقان فالثورة؛ حبس حريّة التعبير يخنق الابتكار؛ إسكات النقد يسمح بالفساد وسوء الإدارة وهدر المال العام، وتردي الخدمات العامة وبؤس الناس. متى يتم إعفاء الناس فاقدي الأمن من الاتهام أمام محاكم أمن الدولة، وإعادة تعريف الأمن القومي بعناصر تعريفه العالمية؟ هذه هي مسألة الأمن القومي!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة