من التفسيرات الشائعة للإنسان والعالم، القصة الإنجيلية عن سقوط الإنسان من الجنة، بسبب ملامسة المحظور. وليست رمزية "التفاحة" التي أكلها آدم خافية في تلك الحكاية: لا يتعلق الأمر، حرفياً، بأكل تفاحة -أو مهما كانت تلك الثمرة- بقدر ما يتصل بفكرتين متعالقتين: فتنة المعرفة، ومغبة تحدي السلطة. آدم استجاب لإغواء معرفة كنه الثمرة المحرمة، لكنه تحدى بذلك الإرادة التي حظرت عليه معرفة الأشياء بلا تفويض، وتجاوز الحدود التي قُدرت له. وبعد أن قُذف به من الفردوس إلى الأرض القاسية، ظلت حياة نسله محكومة بنفس الصراع الموجع بين التوق إلى المعرفة والتجريب، وبين الخوف من مقاربة الأشياء المخصوصة التي صنفتها سلطات مختلفة على أنها "محظورات"، "محرمات"، "ممنوعات". وقد يكون نموذج "فاوست" غوته الذي أبرم عقداً مع الشيطان باع له بموجبه نفسه مقابل اكتشاف الجوهر الحقيقي للحياة، فالسعادة، أجمل تلخيص لفكرة هذا الصراع.
الذي استدعى تأمل فكرة المسموح والممنوع كان شيئاً أكثر دنيوية من ذلك في الحقيقة، وأكثر بساطة: رحيل الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم الأسبوع الماضي. ذلك الحدث دفع بنوعين مختلفين من المشاعر تجاه الشاعر الراحل: عندما كان ممنوعاً، وعندما أصبح مسموحاً. لم يكن الذين تعرفوا إلى أشعار نجم أولاً في السبعينيات والثمانينيات قد شاهدوه على شاشات التلفزة، أو حتى قرأوا قصائده مطبوعة في مجموعات شعرية. لم تكن في ذلك الوقت فضائيات ولا "يوتيوب"، وإنما كانت ملكية وسائل الإعلام والاتصال حكراً على الحكومات. ولذلك، عرف المهتمون أحمد نجم من أغاني الشيخ إمام عيسى المهربة على أشرطة الكاسيت، بأشعار نجم. كان معظم جمهوره من الطلبة الذين كان اهتمامهم بالمعرفة -والسياسة- في تلك الفترة مختلفاً وأكثر جدية.
كان تداول الممنوعات من الأغاني والمطبوعات، وممارسة "السياسة" المحظورة في تلك الأوقات، نوعاً من المتعة الغريبة. أن تحمل في جيبك منشوراً وتسير في الطريق، أو أن تشارك في جلسة تستمع فيها إلى أغاني الشيخ إمام وأنت تستشعر الخطر، كان شيئاً فيه نشوة. كان المسيّسون/ المثقفون اليساريون يشتركون في اقتناء مجموعة من الأشياء كمرافقات ضرورية، منها أشرطة أغاني مارسيل خليفة، وفرقة الطريق، وفيروز، والشيخ إمام، وأشعار مظفر النواب، ومجموعة من الروايات والكتب النظرية من مطبوعات دار "رادوغا" للنشر في موسكو السوفياتية. أما إذا تعرض بيتك للتفتيش وعُثر على بعض هذه الأشياء عندك، فأنت "سياسي" وخطر على أمن الدولة، وتستحق أن تعتقل وتعذب وتطارَد.
عند نقطة ما، وباستمرارية تبدو حتمية، انفتح الفضاء و"تعولمت" الممنوعات ولم يعد يمكن ضبطها. وفي العقدين الأخيرين، بدا أن قبضة الحكومات ارتخت، وأن انفراجاً سياسياً ما حدث في المنطقة. فُتحت الأبواب لعمل الأحزاب السياسية والبرلمانات والانتخابات، وصاحب ذلك إفراج عن الممنوعات المذكورة. لكنّ ذلك الانفتاح أفضى -بطريقة محسوبة أو عرَضية- إلى إفقاد العمل السياسي معناه، بالنسبة للكثيرين ممن اشتغلوا به سراً قبل ذلك على الأقل. وبجوار ذلك، فقدت الأغاني والكتب والأشياء التي كانت محظورة كثيراً جداً من هيبتها ومعانيها. باختصار، سقطت فكرة معرفة الممنوع وتحدي السلطة على الطريق، وسقطت معها الأشياء في العادية.
الانفراج الشكلي العربي الظاهري في العقدين الأخيرين، كما تبين، كان فخّاً اصطاد أحلام الأجيال العربية ودجنها وجردها من حالة التوقُّع. بقصد أو بدونه، أصبح الناس جميعاً مكشوفين أمام الأنظمة، وبذلك ذهب خوفها مما قد يرتبه لها الساخطون تحت الأرض. وعلى الناحية الأخرى، أصبح شعور الناشطين غير المحبب بالانكشاف سبباً لفقدان الأهمية والمعنى. وعند أول اختبار حقيقي لحقيقة المسموح والممنوع، بينت خبرة "الربيع العربي" الأخيرة أن الممنوع هو الممنوع، وأن السلطة هي السلطة، وأن العقاب هو العقاب. لم يكن قمع التظاهرات في زمن الممنوع يختلف عن قمعها في زمن المسموح في معظم الأماكن العربية. بل ولم يصل الأمر أبداً إلى حرب الأنظمة المفتوحة ضد شعوبها كما يحدث الآن.
أشياء كثيرة تغيرت في العقود الأخيرة. اختلفت التجليات وتعددت الجهات وتكاثرت السلطات. لكن الذي ربما لم يتغير، هو أن العرب لم يخرجوا أبداً من زمن الممنوع، والمزيد من الممنوع، وإنما بلا تلك المتعة التي تصاحب اختلاس المعرفة!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جريدة الغد علاء الدين أبو زينة صحافة