يخالجني شعور –أرجو أن يكون مخطئاً- بأن جيل أمهاتنا كان أكثر حرية من جيل بناتنا، بغض النظر عن "التقدم" الظاهري. ربما تكون للأمر صلة بالبساطة النسبية التي وسمت مجتمعاتنا العربية الريفية في تلك الأوقات من جهة، وبالتوجهات التقدمية الحقيقية للمجتمعات الحضرية المتفتحة على الأفكار الجديدة من جهة أخرى. ولا يعني هذا القول بأن جيل أجدادنا لم يكن بطريركياً. كان كذلك. لكنه يبدو أن الأجيال اللاحقة لم تقل بطريركية، وإنما بطريقة أكثر مكراً، وبالتالي أشد خطراً. ولعل العنوان الأوضح في هذا الإطار، هو الاستخدام الكثيف للنساء في الحركات "الثورية" ثم الانقلاب الذكوري عليهن في كل مرة، والتنكر لكل الوعود التي تُبذل لهن. يتضح ذلك في ندرة وجود المرأة العربية في المواقع السياسية والإدارية ذات المعنى. وحتى "المشاركة" الاقتصادية، توحي بأنها تحمل في أعماقها نزعة ذكورية استغلالية، يتم التعبير عنها في النصيحة الشائعة الآن: تزوج موظفة حتى تستطيع أن تعيش. وهكذا، فإنه حتى هذا الجزء من نشاط المرأة يظل مشروطاً بالظروف وليس بالقناعات. ويبقى الاختيار المفضل، إذا تسنى، هو إخضاع المرأة من خلال الإبقاء على تبعيتها الاقتصادية أيضاً، بحيث يُنظر إلى السماح لها بالعمل على أنه تضحية مؤلمة بجانب من السلطة.
بطبيعة الحال، لا تنفصل أوضاع المرأة العربية عن وضع المرأة في العالم كله تقريباً. فما تزال المرأة تناضل، حتى فيما يدعى بالعالم المتقدم، من أجل التخلص من المظالم الجندرية التي لا تنتهي. وتحت عنوان "العنف ضد النساء" وحده، لا نملك سوى الاندهاش ثانية مما يندرج تحت هذا التوصيف، ولو أنه معروف للجميع. هناك من عنف الأفراد: "العنف الأسري، والتحرش الجنسي، والاستخدام القسري لوسائل منع الحمل، وأد البنات، اختيار جنس المولود قبل الولادة، عنف القِبالة وعنف الغوغاء". وهناك العنف الذي يرتبط بالممارسات العرقية أو التقليدية الضارة، والذي يبدو أننا أكثر المختصين به: "جرائم الشرف، عنف المهور، ختان الإناث، الزواج القسري". ومن بعض أنواع عنف الدولة الذي يمارس ضد النساء أو تتغاضى الدول عنه، هناك "اغتصاب الحرب، العنف الجنسي والاستعباد الجنسي أثناء النزاعات، التعقيم القسري". وهناك الحالات الموثقة لعنف الشرطة والأفراد، مثل جَلد النساء أو رجمهن، بالإضافة إلى العنف الذي تمارسه الجماعات الإجرامية، مثل الاتجار بالنساء، والبغاء القسري.
يستطيع الجميع تمييز الأشكال الأكثر انتشاراً من هذه الممارسات في منطقتنا، بالإضافة إلى مظاهر التمييز الجندري في أماكن العمل والأجور وما شابه. لكنّ هناك شيئاً أعقد من أنواع استهداف المرأة في مجتعاتنا، قد يجوز وصفه بأنه إخضاع المرأة كأيديولوجيا. في مجتمعات أخرى، يصعب على أي منظر الدفاع عن تبعية المرأة، وغالباً ما يتم الاعتراف به هناك كواقع مخجل ينبغي تغييره. لكن اتجاهات قوية لدينا لا تجد غضاضة في الترويج المستمر لهذا الإخضاع باعتباره سمة ثقافية وجزءاً بنيوياً من الالتزام العقائدي والهوية الخاصة. وبغض النظر عن كل الحديث عن صفاء طوية الأصل وسوء التأويل، فإن الوجهة تذهب، كما نرى بوضوح، لصالح سوء التأويل الغادر حتى أصبحت تبعية المرأة جزءاً سرطانياً من المنظومة العقلية والتقاليد والثقافة –كطريقة للحياة. وفي بعض الأحيان، يصعب التمييز بين المتدين والعلماني والفوق-طبيعي والواقعي في تطبيق الممارسات التمييزية ضد النساء.
الملفت، والخطير، في هذا الجانب، هو "الإنجاز" المميز لهذه الأيديولوجيا في إشراك المرأة نفسها بالتآمر على نفسها من خلال الاقتناع بصواب القول بثانويتها كجزء من الترتيب الطبيعي والإيجابي للأشياء. ولعل هذا شيء فريد في عالَم اليوم، والذي يجعل من مشكلة المرأة العربية مضاعفة التركيب والصعوبة. لم يعد الأمر يقتصر على وصايا أمهاتنا للابنة قبل الزفاف بإطاعة الرجل والخضوع لرغباته، وإنما أصبح التبشير بالمزيد من مصادرة حرية المرأة وأشكال سجنها وامتهان أنوثتها أشبه بمهنة، مؤهلها اعتناق التأويلات المتطرفة كأيديولوجيا، والتي تمارسها النساء أنفسهن. وقد وصل فساد الأيديولوجيا في الفترة الأخيرة حداً غير مسبوق، في ظاهرة ما يعرف بـ"جهاد المناكحة" –نوع البغاء الذي ربما مارسته نساء عربيات بقناعة تامة. ربما يكون هذا الإخضاع المركّز والجديد بالأيديولوجيا هو الذي جعل جيل أمهاتنا أكثر حرية وفرصة من نساء اليوم؟!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد علاء الدين أبو زينة