إقدام قتلة الكيان على اغتيال الشهيد رائد زعيتر مؤلم جداً، لكنه لا يشكل أي مفاجأة إذا تأملناه برباطة جأش؛ إنه مجرد تكرار لحدث مألوف ويومي، في سياق غير منقطع من تراث التقتيل الذي يمارسه هؤلاء علينا منذ عقود. والغضب الذي حرضه استشهاد مواطننا ليس غريباً علينا أيضاً؛ إنه عقدة أخرى فقط في سلسلة ثكلنا المتواصل، ونحيبنا العاجز على كواكب شهدائنا الراحلين. دائماً نتوقع أن تسفر صدمة الدم المسفوح عن تحول مقنع في السياق. ودائماً تعود الأمور إلى ما اعتادت أن تكونه: طرف يعتنق عقيدة العدوان ويصونها باعتقاد بالأحقية والحصانة، وطرف يثور ولا يلبث حتى يستكين، في انتظار مجزرة أخرى أو مصرعٍ آخر، لأنهم كوّنوا له عقلية مناقضة تماماً: عقلية الانصياع!
لا أزعم مطلقاً أننا أناس بلا كرامة. إنها الكرامة بالذات هي التي تجعلنا نحن الأكثر عرضة للقتل، لأننا لا نكف عن التحدي ونحن عُزّل. إنها هذه الكرامة بالذات، هي التي جعلت رائد زعيتر يرفض تعالي الجندي القاتل، حتى لو كان ثمن ذلك حياته نفسها. إنها الكرامة بالذات، هي التي تجعل عجوزاً فلسطينية تقبض بيديها النحيلتين على ياقة جندي احتلال بين رهطه وعصابته. إنها هي التي تجعل فتى يلاطم بحجره الصغير جبروت "الميركفاه" المرعبة، ولا يحفل بالعواقب.
الكتابات عن الشهيد رائد زعيتر، وجدت صلة بين استشهاده وبين معركة الكرامة التي وقعت في آذار (مارس) 1968 أيضاً -محض صدفة. كان الذي حشر "الكرامة" في الموضوع هو أنها تكاد تكون الكرامة الوحيدة التي نتعلق بها ونعظمها، تماماً لأنها شبه وحيدة. في تلك المناسبة، خرجت الأشياء عن سياق الهزيمة المريع لسبب بدهي: لم نواجه في ذلك اليوم البعيد صلافة العدوان بعقلية الانصياع، ببساطة لأننا لم نكن عزلاً. الكرامة في وجه السلاح لا يمكن أن يصونها إلا السلاح. لو كان للأمر صلة بالغضب وحده، لغسلت أحزاننا أكوام الغضب. من البداية قال صوتنا الشعري، محمود درويش: "غضب يدي، غضب فمي، ودماء أوردتي عصير من غضب"! لكنه ظل غضباً عاجزاً لأنه بلا يدين، ولذلك تحول إلى بكاء، ثم إلى الشهيق المستكين الذي يعقب البكاء حتى الهمود.
الذين يسفحون كرامة العربي، ويرخّصون دم العربي، هم "أصحاب أمر" العربي. هؤلاء هم الذين وجدوا له مسرباً غرائبياً لتفريغ غضبه على طريقة تحوّلات بطل "كافكا"، لينتهي إلى مسخ: شبه وحش يصرّف ضغط غرائزه بالعدوانية ضد مواطنيه. ولنشاهد مشاجرات العرب، وحتى معاركهم الحقيقية التي يخوضونها ضد أنفسهم بكل ما تحت أيديهم من سلاح. ولنتخيل لو ذهب هذا الحجم من الغضب إلى حيث ينبغي أن يذهب -إذن لفكر قاتل زعيتر مليون مرة قبل أن يطلق رصاصته الغادرة، أو ربما لم يكن القاتل ليكون هناك على حدود فلسطين من الأساس.
لا أريد أن أقلل من فظاعة مصرع مواطننا على حدّ وطنه بيد الغرباء. لكنه كان في الأول والآخر ضحية سياق. وسأفعل مثلما فعل الذين وجدوا صلة بين استشهاده وبين معركة الكرامة، فأتعقب صلة بينه وبين ما يقولونه الآن عن "السلام". هكذا هو مشهد السلام الآن بالضبط، في طباق محكم مع السياق: طرف مدجج، يعتقد بالأحقية ويتمتع بالحصانة التي تجعل القتل بالنسبة إليه مثل شربة ماء، وطرف أعزل مقهور، يتقي الرصاص بيديه، وقد أعيته الحيل وأتلف عينيه النحيب على قتلاه.
اقترح صديق بطرفة سوداء لدى الحديث عن الشهيد الجديد: "لا مشكلة، غداً سنضع الجيش على الحدود"! لا أحد يضع جيوشاً على تلك الحدود بالتحديد. هم وحدهم الذين يضعون جيشهم على كل حدودنا إذا قُتل لهم قتيل. هم وحدهم يبادلون قتيلهم الواحد بألف من أحيائنا. هم الذين يعرفون كم جعَلنا أولياء أمورنا رخيصين، ولا يرفضون هبة أرواحنا التي يحصدونها بوفرة لأنهم يعرفون أنها بلا ثمن.
الآن، يقدر كل عُشاق الكيان القاتل أن الفلسطينيين وقيادتهم، والعرب وقادتهم، في وضع التجسيد النهائي لفكرة الانصياع. ولذلك يحثون المحتلين بحرقة على "اغتنام الفرصة" والإجهاز على بقية الكرامة، ومن تبقى من أصحاب الكرامة، بلا ثمن تقريباً وبلا تداعيات. هذا هو سياق استشهاد رائد زعيتر.
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة