حمّى الأسعار تطال كل شيء في الأردن. ولو قارن المواطن كلفة معظم السلع والخدمات قبل عقد فقط بما أصبحت عليه الآن، واحتسب الارتفاعات غير المتناسبة في دخله، فإنه سيصاب بالإحباط على أقل تقدير. وهو ما يحصل على كل حال، حيث تسببت ضغوطات المعيشة على المواطن برفع منسوب التوتر الاجتماعي إلى مستويات مرَضية، تعبر عن نفسها بالعنف والشجارات، أو الحراكات السياسية الغاضبة، حتى أصبح البلد على حافة الانفجار.
كان من أهم الخدمات التي طالها ارتفاع الكلفة على المواطن، خدمة التعليم. وفي الواقع، تحولت هذه الخدمة التي تقدمها الدول الواعية إلى مواطنيها مجاناً بسبب مردودها الاستراتيجي، إلى سلعة تخضع لمنحنيات العرض والطلب. أصبح الذي معه يشتري والذي ليس معه له الله. لكن الأردنيين الذين يعتبرون التعليم حقاً مقدساً لأبنائهم عليهم، يضطرون إلى شد أحزمتهم والاستدانة من أجل الوفاء بهذا الالتزام. وحتى في التعليم الأساسي والثانوي، أصبح الغالبية يرسلون أبناءهم إلى المدارس الخاصة المكلفة أملاً بتزويدهم باستعداد تعليمي أفضل.
على المستوى الفردي، سيكتشف الأردني أن مجموع المبالغ التي يدفعها على أبنائه في مختلف مراحل الدراسة، ستحتاج إلى عمر كامل آخر حتى يسترد "رأسماله" في شكل تيسير حياة أولاده. وإذا كان الطالب يتخرج ليبقى طويلاً بلا عمل، ثم يعمل براتب لا يصنع له شيئاً تقريباً، فإن التعليم يصبح بهذا المعنى تجارة خاسرة بالإجمال.
على مستوى الدولة أيضاً، وصل العقل الذي يخطط للتعليم إلى نتيجة غريبة، مفادها أن الإنفاق على التعليم وتحمل كلفته عن المواطن، تجارة خاسرة. ولذلك دفعت السياسات التعليمية الخاطئة المواطن إلى تحمل المخاطرة ودفع كلفة تعليم أبنائه في المدارس والجامعات الخاصة. وبطبيعة الحال، أفضت خصخصة التعليم على هذا النحو، لمختلف الأسباب، إلى تخريب نوعية التعليم وتمييعه بدون خطة وطنية واعية. وترتبت على ذلك نتيجة حتمية: إن التعليم سيئ النوعية هو تجارة خاسرة، لأنه لن يعود مطلوباً في أسواق العمل ولن يعيد كلفته. وقد أفضت إدارة التعليم على هذا النحو إلى خسارة الأردن سمعته كمنتج لتعليم مميز وخريجين أكفاء، ومعها الدخل المتوقع من تصدير التعليم إلى الخارج أو استثماره في الداخل.
قرار الجامعة الأردنية الأخير رفع رسوم برنامجيها "الموازي والدراسات العليا" بأرقام كبيرة، هو خطوة أخرى فقط في اتجاه خصخصة التعليم وتسليعه وجعله امتيازاً للأثرياء. ولمن يعرف بدايات هذه الجامعة، أم الجامعات، وكيف بنت سمعتها، فسيتذكر أن طلبتها في أواخر الستينيات كانوا يدفعون 12 ديناراً في الفصل الأول ومثلها في الفصل الثاني، بل ولا يدفعونها في غالب الأحيان. في حين كانت هيئتها التدريسية نخبوية وكفاءة خريجيها رفيعة. وقد ارتبط ذلك بفلسفة الجامعة والهدف السامي من إقامتها كبداية واعدة لتأهيل الأردنيين والاستثمار فيهم ورفع سوية البلد بأسره.
تبرر "الأردنية" رفع رسومها بأن الحكومة تتركها بلا تمويل مناسب، فتضطر إلى تدبر أمر إعالة نفسها بنفسها، وهو ما دفعها إلى ابتكار برامج الموازي والدولي التي تعرضها بأسعار عالية جداً، تساوي أو تزيد على أسعار الجامعات الخاصة. وتعتمد الجامعة الأردنية في اجتذاب الدارسين على "علامتها التجارية" أو سمعتها العريقة. لكن المفارقة هي أن تخلّيها عن مستواها الأكاديمي المميز ونوعية طلبتها المميزة يجعلها تخسر هذه السمعة، فلا يعود لديها ما تتاجر به. وإذا كان هذا حال "أم الجامعات" وأول الحلم الأردني بصناعة بلد متعلم، فلنا أن نقدر حال التعليم الأردني كله.
لا أدري كيف تستطيع الحكومة جلب القروض والمنح الخارجية لمختلف المشاريع، ولا تهتم بجلب منح للجامعة الأردنية وبقية المؤسسات التعليمية الرسمية. وإذا كان يمكن تبرير رفع دعم الخبز والوقود بأنه استجابة لضغط مؤسسات الإقراض الدولية والمانحين، فلا أظن أن أحداً ضغط على الأردن لرفع الدعم عن تعليمه بكل مراحله، ولا كان عليه أن يفعل، حتى لو طلب أحد منه ذلك.
من عشرة طلبة جامعات أعرفهم في محيطي، هناك واحد فقط يدرس على برنامج القبول الموحد، والباقون إما في الموازي أو في الجامعات الخاصة، في مشروع دراسة يبدو خاسراً. كما أن دارس الماجستير والدكتوراة سيبيع نفسه ليعلم نفسه، وفي تجارة خاسرة غالباً أيضاً. هكذا جعلوا استثمار الأردني الأساسي المعقول تجارة خاسرة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   علاء الدين أبو زينة