في زمن تكنولوجيا المعلومات وثقافة الجل وشكليات الثقافة بالمزج بين مصطلحات عربية واخرى انجليزية لرجال المرحلة والقرن الجديد, في هذا الزمن يمكننا ان نذكّر بما كان يتداوله الآباء والاجداد من كلمات ومنها "الصفن", وهو اشبه بالجزدان او بلغة القرون الماضية بيت المال او الخزنة والخزينة, وهو احد تعبيرات السيادة قديماً لدى الكبار, فكبير العائلة لديه الصفن الاهم رغم ان كل ما فيه لا يكفي لشراء حقيبة يد نسائية الآن, لكنه رمز السيادة مع ما تحتويه البيوت من قمح وشعير وعدس, وما تملكه المرأة من هيمنة على بيض الدجاج والسكر والشاي (الحل) والسمن البلدي, فللمرأة دور سيادي حيث لغة المقايضة؛ فهي تملك ما يمكن ان تقايض به وتحصل من خلاله على الحلاوة والدبس والسكر وحتى قماش الملابس وأهمه الصوف الربيعي.
والصفن اداة سياسية لدى الحكومات وقيادات الاحزاب والهيئات والثورات, فمن يملك قرار الصرف والتوقيع المعتمد يملك القرار او يهيمن على متخذيه, وكم من ثورات وتنظيمات حكمها اصحاب الصفن وفرضوا انفسهم على الانتخابات التي تتحول الى اداة شكلية لتنصيب صاحب القرار المالي, والان هنالك الدول الكبرى التي تملك (الصفن الدولي) الذي نسميه صندوق النقد الدولي او البنك الدولي, وهذا الصفن يفرض سياسات اقتصادية واجتماعية, كما ان كل المساعدات تأتي مشروطة واحياناً تتخذ الدول قرارات اصلاحية او تخرج بأفكار تعتقد الشعوب انها تكريما لها بينما هي استجابة لشروط اصحاب القرار المساعدات او لجدولة الديون.
وفي عالم الحكومات تحب طبقة اصحاب القرار ان تملك (صفنا) خارج اطار الموازنات وقرارات الصرف الروتينية, فشراء اقلام لوزارة او دائرة قد يحتاج الى عدة توقيعات وقرارات, لكنّ هناك اشكالا من الصرف يحبها اصحاب القرار في الدول وحكوماتها؛ ان يوزعوا اموالاً لاسترضاء جهة او شخص, او لمكافأة آخرين, واحياناً يتم معاقبة بعض من لا يمارسون المجاملة والهتاف والغناء السياسي عبر اعطاء من يقدمون انفسهم بدلاء في هذا المجال, لكن العطايا في قانون (الصفن الحكومي) في الدول لا يتوفر فيها ذلك الاحساس الفطري الجميل الذي كانت وربما ما زالت الجدات يمارسنه مع الصغار حين تضع الجدة في حضنها طفلاً من احفادها او من جيرانها وتعطيه حبة راحة او ملبس او قرشاً, فالجدة تمارس بذلك امومة وكرما, واقصى اشكال المصلحة في هذه الممارسة ان تستقطب حب الطفل بحيث يأتي اليها اذا ما نادته لملاعبته, لكن صفن الحكومات لا يزرع حبا لدى زبائنه، بل يعمق قانون الاستزلام ويقتل مشاعر الولاء والانتماء الحقيقي ليحول هذه الفئات الى ممارسة ما يمكن تسميته بالولاء اللفظي، حيث تتحول الاعطيات والمنح الى ما يشبه البطاريات التي توضع في لعب الاطفال, فيتحرك الولاء الى حين انتهاء مفعول الاعطية او المغلف, وحتى من يمتلك في قلبه انتماء حقيقياً وصادقاً فإن هذه الممارسات كفيلة بإفساد اجواء هذه المشاعر الجميلة وتحويل الناس او الفئات المستهدفة الى نوعين؛ احدهما ينتظر ان تأتيه الاعطيات والهبات, والاخر ناقم حرمانه منها, اما عامة الناس فإنهم يرون في هذا الفعل استخداما غير لائق للمال العام, وافسادا لعلاقات الناس بأوطانهم.
فرق كبير بين مال يُعطى لصاحب حاجة او فقير يطلب العلم ويحمل طموحاً مشروعاً, او مريض لا يملك ثمن العلاج, وبين مال يوزع في الدول في قوائم على من لا يحتاج، وربما تتكرر القوائم في اكثر من جهة, والمحصلة ان المال لم يحلّ مشكلة ولم يصنع انتماء وانما حقق هدفاً في شراء الرضى, والاخطر ان يكون هذا السلوك في اي دولة ومجتمع بديلاً عن الفعل الحقيقي او تعبيراً عن العجز في التعامل مع المشكلات الحقيقية والكبرى.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة