مرايا.. كما أحب أن أسمّيها.. هي صور ألقاها كل يوم على رصيف الحياة.. فتلفتني وتترك أثراً.. فيكون اقتناص لبعض العِبَر أو توغّل في الفكر..
........
أتتني لتخبرني عن عرض للزواج ثالث.. فاستنفرتُ.. ألم تتوبي؟! هذا الشاب يصغرها بسبع سنوات.. وأهله غير راضين عن زواجهما.. وهو يلاحقها منذ سنتين.. كانت ترفض.. ولكنها اليوم تشعر بالوحدة.. فلِمَ لا تقبل به؟! كان تردّدي منبعه من عدة أمور.. أولها استياء أهله ورفضهم.. فأي حياة ستستقيم إن قدّر الله جل وعلا وانتفض من حلمه ليرى أهله في واد قد تبرأوا منه وهو في واد مع زوجته التي تكبره بسنوات! كيف ستنجب له وتؤسس له عائلة وهي قد تعدّت الأربعين منذ سنتين؟! وماذا سيعمل إن تبرأ منه والداه وحرماه البيت والمحل الذي يعمل فيه كما هدّداه؟!
كنتُ أخشى من استيقاظه يوماً بعد أن يحصل على ما يريد منها.. وكنتُ أتساءل.. تُرى.. هل سيبقى على حبه لها أم سيأكله الندم! كان رأيي أن ترفض.. ولكن وحدتها وغربتها أنسياها نصيحتي..
تفاجأتُ بعد أيام أنها تزوجت.. اليوم زرتها في المستشفى بعد إجراء عملية لها.. رأيته هناك.. تفاجأت بمنظره.. فهو يبدو أصغر من عمره بكثير! كانت أيديهما متشابكة.. وابتسامات تعلو الوجوه.. اقتنصت لحظات بعُد فيها عنا.. وسألتها.. هل أنت سعيدة معه؟ ! فأجابت: أسأل الله أن يرزقك مثله! ابتسمت وقلت لها.. لا تتسرعي بجوابك اليوم.. أراكِ بعد سنة.. إن.. أحياني ليومها..
تُرى.. هل أخطأتُ أنا بتقديري.. أم هي من أخطأ ؟!! سنرى!
..........
في إحدى المحاضرات القيِّمة جلستُ أتابع الشيخ الذي دخل في مفهوم العبادة وانتقل بعدها إلى محبة الله جل وعلا ولقائه في الجنّة.. وإذ بالقلم يسقط من يدي ويتدحرج.. فقمت والتقطته.. وحين عدتُ إلى مقعدي سمعتُ صوتاً ينادي بإسمي.. التفتّ ونظرت إلى مصدر الصوت وفتحتُ عيني مشدوهة مما رأيت.. إنها "فدى" ولكنها.. محجبة! صدمتُ فعلاً واتفقنا على أن نلتقي في نهاية المحاضرة خارج القاعة..
هذه الفتاة كانت معي تدرس في نفس الإرسالية التي كنت فيها حتى إذا ما انتقلنا الى المرحلة الثانوية فيها انتقلت هي إلى إرسالية أُخرى.. ثم عدنا واجتمعنا في العاصمة حيث تسجلنا في نفس الجامعة.. في بادئ الأمر حجزنا في فندق قريب من الجامعة وبقينا فيه مدّة ثم انتقلنا للسكن في بيت مع أختين محجبتين قبل أن ننتقل إلى حرم الجامعة.. وكنا فدى وأنا بعيدتين عن الالتزام في تلك الفترة.. حتى إذا ما بدأتُ أنا بالتأثّر بالإسلام والمواظبة على الصلاة شعرت فدى في نفسها ميلاً إلى الدِّين.. وابتدأت بالصلاة أيضاً.. إلى أن تحجبتُ أنا.. فخافت على نفسها.. وخشِيَت إن بقِيَت معنا في البيت أن تتأثر وتتحجب.. وهذا الأمر كان مستهجناً جداً لمن كان مثلنا وفي بيئتنا في ذلك الوقت.. هرَبَت من الحجاب ولا أدري إن بقِيَتْ على الصلاة يومها.. كان هذا منذ حوالي عشرين عاماً!
فدى اليوم في حجابها تنعم.. كانت مفاجأة كبرى لي.. وغمرت الفرحة قلبي إلى درجة عظيمة..
والسؤال الذي بقي في خلدي مذ رأيتها كان.. إلى متى يهرب الإنسان من نِعم الله جلّ وعلا ويعتقد أنه في حصنٍ حصين؟ عشرون عاماً! كم فقدت من الخيرات في هذه السنوات التي رفضت خلالها الالتزام؟! وفي النهاية.. رضخت راضية لما رفضته يوماً.. أهو القدر الذي أشفق عليها.. أم أنه العقل الذي أعملته فعرفت أنّ خيرها هنا.. أم أنها دعوة من أحبها بصدق؟!
كل هذا لا يهم.. طالما أن فدى اليوم قد التزمت!
...........
في الشارع المقابل لبيتي مكتب أمرّ أمامه كل يوم دون أن يلفتني إليه شيء.. حتى تلك اللحظة التي وجدتُ فيها امرأة اجتاحت التجاعيد وجهها الأبيض.. تحمل ممسحةً للأرض وسطل الماء المعطّر بمساحيق النظافة.. وتحني ظهرها المتعَب من آثار السنين.. وتنظِّف الأرض.. لم أستطع كبت صرخة خرجت من صميم قلبي ولم تتعدَّ حلقي الذي غصّ بريقي!
تمهّلت في السير وأخذت أراقبها.. كلما تعصر الممسحة تعود للانحناء على الأرض.. ثم تنتصب.. تقف لبرهة لتأخذ نفساً عميقاً قبل معاودة الكرّة.. في هذا العُمر.. ما زالت تعمل لتتقاضى أجرة نهارها.. في وقت كان الحريّ بها أن تلزم بيتها وترتاح فيه! ضاقت عليّ الدنيا بما رحُبَت.. وتأمّلت الحياة كم هي مريرة.. ألا يحق لها بعض راحة قبل أن تلتحف التراب؟!
أين أهلها؟!
............
شبابٌ يافع.. وجمال ورِقّة.. بعمر الورود.. داهم قلبها مرضٌ نادر.. وعرفت أن أيامها المتبقية قليلة.. جنَّ جنونه.. وبات يرقد على جمرٍ ولهيب.. أين المفر؟! فقد غزا قلبَه هواها وارتعب.. الفراق قريب!
لم يمضِ على ارتباطهما إلا أشهر قلائل.. ولا زالت السعادة ترفرف بين جوانح حياتهما معاً..
شعر بأن كِل شيء يمر كالرمل من بين أصابعه وهو إلى انتهاء! حتى جاء اليوم الموعود.. ولكلّ أجلٍ كتاب.. رحلت وهو يُمسِك بيدها.. على رأسها يرتّل آيات الحب.. لا يزال منظر الدموع الحارقة في عيونه يؤرّقني..
قالت لي وهي تنعيها: ذبل الورد وهو في أول الطريق.. فقلت: قد ذاقت معنى السعادة والحب.. وماتت على ذاك المذاق!
كم منا يعيش وحيداً.. ويموت وحيداً.. ولا ما يُذاق!
.........
ابنتها على وشك الطلاق.. وحياتها مع زوجها تكاد تقتلها من الأسى والألم..
ابنها جاء من السفر ليرتبط ويأخذ عروسه إلى الخارج فقد سئم أنين الوحدة..
تجلس مع قريبتها لتسألها عن فتاة مناسِبة.. وبتقدير الله جل وعلا تكون ابنة هذه القريبة مطلقة.. فتخبرها عن فتاة رائعة خلقاً وخُلُقاً.. فيحمرّ وجهها وتبادرها بالقول: لا يمكن أن أقبل بهذه الفتاة.. فأبواها مطلّقان!!
............
تقدّم لخطبتها وهو الشاب "الملتزم" الوقور.. فكان الرفض من أهله وأهلها لأسباب.. ولكنه أبى إلا أن يكمل في علاقة لم يُكتَب لها أن تُتوَّج برباط شرعي.. وبقي يلاحقها حتى استسلمت للمشاعر ذات ضعف.. وكلما قطعت العلاقة عاد.. وكلما بعُدَت قرب.. وكلما غابت فتش عنها.. حتى إذا ما وجدت له والدته مَن تليق.. أرسل لها رسالة واعتذر عن سعيه الحثيث وراءها.. وبشّرها أنه سيُغلِق الباب على "أحلى" ذكرى..
فلما استفاقت على خراب.. عضّت على أناملها من الندم أن انغمست في مشاعر وهمية وهي محض سراب فأرسلت له: فما بكت عليكم السماء والأرض!
استشاط غضباً واستغرابا!.. وتساءل: ماذا كنت تتوقعين مني؟ أن لا أتربط مدى حياتي؟! ألا يكفي أن ذكراك ستبقى جميلة؟! لا تحرقي المساحات الخضراء.. وأَبقي مكاناً للوفاء..
وقبل أن يرتد إليه طرفه عاجلته بقولها: من أنت؟!
المراجع
saaid.net
التصانيف
أدب مجتمع