كحال كل الأشياء الجميلة الباقية في هذا العالم ، التي يتآمر عليها المتآمرون: لتقبيحها بسخام التسخيف والتهميش والسطحية ، فيصعقنا شعار الفضائيات العتيد في كل رمضان إذ يتوعدنا بأن لا ندخل أنفسنا ، ولو برجفة حلم صغير:(مش حتئدر تغمض عنيك،) ، فجل المسلسلات والأفلام لا تنبجس ولا تتناسل إلا على عتبات هذا الشهر ، حتى صرنا لا نملك وقتاً نعود فيه إلى أنفسنا الجوانية لمراجعنا وأخذ جردة حساب معها ، ونخلو بها ونتصومع معها ، علنا نتطهر من أدران زمن أوغل في التردي إلى أقصاه.

لا أكد أصدق أن أكثر من مائة وخمسة عشر مسلسلاً عربياً ، دعكم من المسلسلات التركية التي لا تدخل الحسبة ، هذه المسلسلات أنتجت خصيصا لهذا الشهر الفضيل ، وأنها ستعرض حصرياً فيه ، عبر الفضائيات التي احتلتنا ونمطتنا استهلاكيا وجعلتنا كلائنات مستلبة تخضع للعرض والطلب كاي سلعة أخرى. فلماذا غدا هذا الشهر مرتعا خصبا لشركات الإنتاج الفني من الماء إلى الماء في عالمنا العربي.

ربما أن ثقافتنا الإستهلاكية وصبغتها المختلفة والشرهة نوعا ما هي التي تحدو هذه الشركات لتكثيف إنتاجها في رمضان ، وهذا الأمر ينسحب برمته على تهافتنا واستهلاكنا المبالغ فيه للمواد الغذائية خلال هذا الشهر ، مع أن رمضان في جوهره وفي معانيه الكبرى شهر للتقنين والتفحص لإذلال النفس ومراجعتها ، وإعادة توازن إيقاع الحياة ، لإعادته إلى رشده وصوابه ، بعد تنخيلها وغربلتها من الشوائب.

دائما أحاول أن أعود لأحلامي الصغيرة في رمضان ، ليس هرباً من سعار الأسعار والاستهلاك الغبي في هذه الأيام فحسب ، بل لأننا أفرغناه من معانيه ، وحولناه إلى مطبخ متخم ، وتهافتنا إلى القشور وصغائر الأمور ، ولم ندرك ما رمضان الحقيقي وما فحواه ، وأبسط صورة أن الصحون اللاقطة على ظهور بيوتنا ، حلت مكان الصحون التي كان يتبادلها الجيران والأهل ، فيما بينهم تعاطفاً ومحبة ، وليس هذا فحسب بل حولتنا هذه الصحون اللاقطة إلى جزر معزولة لا نعرف بعضنا أو نتزاور أو نتراحم ، فمن قزم رمضان فينا إلى هذا الصغر؟.

ربما إن أغمضنا عيوننا ، وخرجنا من أسر هذه الحرب الإستهلاكية المخطط لها ، ربما سنجد رمضان الحقيقي ، رمضان الآخر ، الذي افتقدناه وأضعناه ، رمضان الذي ليس جوعا وعطشا وحرمانا ، رمضان الذي في أبسط معانيه أن يكون فرصة مواتية لإعادة تأهيل أحاسيسنا ومشاعرنا.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   رمزي الغزوي   جريدة الدستور