بِسْمِ
اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بين الناصريتين
ناصرية العرب وناصرية العجم
شبكة البصرة
كاظم فنجان الحمامي
عرف الناس لامية العرب ولامية العجم منذ قرون. وتعمقت معرفتهم بهاتين اللاميتين
المكتوبتين بماء الذهب على عروش وتيجان دواوين الشعر العربي، لكنهم لم يعلموا
أن التيجان والعروش السياسية الأولى في الشرق الأوسط كانت في القرون الأربعة
الماضية من نصيب واستحقاق ناصرية العرب (ناصرية ناصر)، وناصرية العجم (ناصرية
البو ناصر)، وانه على الرغم من كل الملامح العربية الأصيلة والعوامل الوراثية
(القحطانية والعدنانية)، التي حملتها ناصرية البو ناصر فقد شاءت الأقدار أن
يكون حظها من التسمية مقترنا باللفظ الأعجمي، تماما مثلما حصل مع لامية العرب
ولامية العجم، فاللاميتان قصيدتان عربيتان رائعتان، توقف أمامهما الدارسون
والمتذوقون بالنظر والتأمل، أولاهما لامية العرب المنسوبة للشاعر الشنفرى،
والتي يدعو فيها إلى طلب المعالي والتمرد على الذل، ويقول في مطلعها:
أقيموا بني أمي
صدور مطيكم
فاني إلى قوم سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر
وشدت لطيات
مطايا وارحل
واستمعوا إليه وهو يقول:
لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ
سَرَى راغباً أو راهباً،
وهو يعقلُ
ولي، دونكم، أهلونَ : سِيْدٌ عَمَلَّسٌ
وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ
جيألُ
أما
لامية العجم فهي للشاعر، وعالم الكيمياء، الحسين بن علي بن عبد الصمد الملقب
بمؤيد الدين أبي إسماعيل الطغرائي، وهو من أحفاد أبي الأسود الدؤلي، وسمي
بالطغرائي نسبة إلى تفننه في كتابة الخط الطغرائي، والطغراء هي الطرة التي كانت
تُرسم في أعلى كتب الملوك والسلاطين فوق البسملة، متضمنة
نعوت السلطان وألقابه، وسميت قصيدته بلامية العجم إشارة إلى مدينة أصفهان في
بلاد فارس، وهي المدينة التي ولد فيها الطغرائي عام 1121 م، وعاش ومات فيها،
وسميت القصيدة هكذا تمييزا لها عن لامية الشنفرى. ويقول في مطلعها:
أصالة
الرأي صانتني من الخطل
وحيلة الفضل زانتني لدى العطل
واستمعوا إليه وهو يتبرم من إدبار الدنيا عن أشراف القوم، وإقبالها على
أراذلهم:
ما كنتُ أوثرُ أن يمتد
بي زمني
حتى أرى دولة الأوغاد والسفلِ
تقدمتني أناسٌ كان شوطُهمُ
وراءَ خطوي
لو أمشي على مهلِ
وان علاني من دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
لقد توّجت
العرب قصيدة الشنفري على عرش لامية العرب بتاج النعمان، وتوّجت قصيدة الطغرائي
على عرش لامية
العجم بتاج كسرى. وسنواصل جولتنا في تصفح تاريخ تيجان ناصرية العرب وناصرية
العجم.
لوحة تعكس عظمة مدينة الناصرية في الألف الرابع قبل الميلاد
ناصرية العرب
تعد الناصرية العراقية، التي أطلقنا عليها هنا (ناصرية العرب)، من أقدم مدن
العراق، وأعرقها في التاريخ، وتعود ولادتها إلى منتصف الألف الرابع قبل
الميلاد، حيث أسسها السومريون القدامى في تل العبيد، وشيدوا في (أور) صرح أعظم
وأرقى
حضارة عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، واكتشفت فيها الزراعة لأول مرة، واهتدى
فيها الناس إلى صناعة السفن الشراعية والمراكب من القصب والبردي، وتعلموا فيها
ركوب البحر، وفنون الملاحة البدائية، واليها ينتسب أبو الأنبياء وتاج الأصفياء،
إبراهيم الخليل عليه السلام، وتميزت (أور) بزقورتها، وفيها تأسست أولى المدارس
في كوكب الأرض، وكان فيها أول معلم، وأول تلميذ، ودارت في ضواحيها أول العجلات،
وخطت فيها على ألواح الطين أول حروف الكتابة والتدوين بالخط المسماري، وسنت
فيها أول الشرائع، وفيها تعلم الإنسان أول خطوات علم الفلك والرياضيات، وكانت
أرضها مسرحا لملحمة الطوفان، وهي أقدم الملاحم البشرية، وامتد بها العمر إلى
قبيل ظهور الإسلام حيث دارت على أرضها معركة ذي قار،
وهي المعركة الفاصلة، التي سجل فيها العرب انتصارا ساحقا على الجيوش الفارسية،
وشاءت الأقدار أن تتكرر الانتصارات العربية على الفرس في هذه الأرض المباركة،
ففي عام 1777 اندحر الفرس في معركة (الفضلية) على يد قبائل المنتفك، وتكبدوا
خسائر فادحة، وبعد هذه المعركة بعام واحد التقى العرب مع الفرس في موقع (أبو
حلانة)، فانهزم الفرس مرة أخرى أمام شجاعة وبسالة رجال المنتفك، وخاض أبناء
الناصرية عام 1813معركة أخرى في مواجهة الجيوش العثمانية، وكانت اشد وطأة من
المعارك السابقة، ودارت رحاها هذه المرة في موقع يقال له (إغليوين)، وهو نهر
صغير بين الناصرية وسوق الشيوخ، واستمرت المعركة لعدة أيام، انتهت بالنصر
المؤزر لصالح المنتفك، الذين بسطوا نفوذهم السياسي والقومي على العراق كله، من
شماله إلى جنوبه، وفي عام 1869 قرر الشيخ ناصر بن راشد السعدون بناء مدينة تحمل
اسمه، بحيث تكون مركزا للواء المنتفك وقاعدة له، وهكذا بوشر ببناء مدينة
الناصرية في زمن الوالي مدحت باشا،، واختير موقع المدينة تحت خطر مياه بركة
(أبو
جداحة) المتاخمة لموقع المدينة، والمتسلطة عليها، حتى إذا ما ساءت العلاقة بين
آل سعدون
والدولة العثمانية أحدثوا شقوقا في سدود البركة، وسلطوا مياهها على المدينة
وأغرقوها، وأول
مبنى بوشر العمل ببنائه مبنى سراي الحكومة، ثم جامع فالح باشا السعدون، ثم
تلتها
المساكن والأسواق التي بنيت من القصب والبردي، فتوسعت المدينة، وتوسعت محلاتها،
وكان يحيط بها سور له أربعة أبواب، هي باب الشطرة، وباب السديناوية، وباب
الزيدانية، وباب القلعة.
الحضارة التي علمت الناس الهندسة وأصول الكتابة والتدوين
يلقب الشيخ ناصر السعدون بناصر الأشقر، وهو مؤسس ناصرية العرب، وينتسب إلى أسرة
السعدون، التي يرجع نسبها إلى سعدون، بن محمد، بن مانع، بن شبيب الثاني، بن
مانع، بن شبيب الأول، بن حسن، القادم إلى المنتفك من الحجاز، بن مانع، بن مالك،
بن سعدون الأول، بن إبراهيم، بن كبش، بن منصور، بن جماز، بن شيحة، بن هاشم، بن
قاسم (ابو فليته)، بن مهنا
الأعرج، بن الحسين (شهاب الدين)، بن مهنا الأكبر (أبو عمارة)، بن
داود (أبو هاشم)، بن القاسم، بن عبيد الله، بن طاهر، بن يحي
النسابة، بن الحسين، بن جعفر، بن عبيد الله (الأعرج)، بن الحسين (الأصغر)، بن
علي (زين العابدين)، بن سبط سيد الثقلين أبو عبد الله الحسين، بن
أول القوم
إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، فارس المشارق والمغارب، المهر الغالب،
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
الوثيقة التي تتضمن العرض الذي قدمه السير برسي كوكس للشيخ عجمي السعدون
بتنصيبه ملكا على العراق والجزيرة مقابل إعلانه الولاء للتاج البريطاني فرفضه
الشيخ عجمي وأعلن تمسكه بدينه وعروبته ورفض الخضوع للغزاة
وأفخاذ السعدون هم:
الفالح، وهم شيوخ السعدون بالعراق حاليا، والبراك، والمشاري، والفهد، والعلي،
والفهد المحمد، والعجيل، والمنصور، والحمادة، والصكر، والبندر، والراشد،
والروضان، والعزيز، والبرغش، والسليمان وهم من المنصور، اما المنتفك فهم
الأجود،
وبني مالك بفروعهم كافة، وبني سعيد، وتنبع عشائر المنتفك من صلب العشائر
العراقية التي دخلت بحلف المنتفك.
لم
تظهر على مسرح الحوادث في تاريخ العراق الحديث أسرة نبيلة تولت الإمارة، وحكمت
العراق دهرا طويلا من الزمن مثل أسره السعدون المعروفة بأصالتها ونسبها العلوي
الهاشمي القرشي المرتبط بالسلسلة الذهبية، فبسطت نفوذها على القسم الأعظم من
العراق الجنوبي مدة تناهز 400 سنة، تولى خلالها الزعامة ما يزيد على العشرين
شيخا من أبنائها البارزين،
وكانت هذه الأسرة العربية الكريمة أول من بعث الفكرة العربية من مرقدها
في العراق الحديث، وأول من حمل راية النضال والمقاومة المسلحة بوجه الأطماع
التركية والفارسية والبريطانية. لقد حفظت عشائر المنتفك للعراق وجهه العربي
خلال القرون الماضية، ووجد العثمانيون، منذ أن استولوا على العراق، أنهم أمام
مجموعات عشائرية قوية لها كيانها وسيطرتها، وخاصة في الجنوب، الذي كانت تغطيه
عشائر المنتفك، ذات المسؤولية الكبيرة داخل العراق وخارجه، واستطاعت أن تغرس
على ضفاف الفرات بذرة الإمارة العربية الواسعة النفوذ، وتتمتع باستقلالية
كاملة.
ناصرية العجم
اما ناصرية العجم فهي مدينة عربية أصيلة شيدها الشيخ ناصر بن محمد أمير قبيلة
كعب، وهو التفسير الثابت في المراجع التاريخية، على الرغم من الادعاءات
الباطلة، التي تقول أنها سميت بالناصرية نسبة إلى الملك القاجاري (ناصر الدين
شاه)،
ويعود
الفضل للشيخ ناصر بن محمد الكعبي في تأسيس إمارة البو ناصر، وهو أول رئيس معروف
لبني كعب في إمارة البو ناصر، وسميت هذه الإمارة باسمه (إمارة البو ناصر)،
وخضعت في الفترة من عام 1690 إلى 1722 إلى تعاقب حكم الأشقاء محمد وعبد الله
وسرحان، وتولى الإمارة من بعدهم الشيخ فرج الله بن عبد الله الكعبي عام 1722م،
ووقعت في أيامه مواجهات دامية بينه وبين الملوك القاجاريين في بلاد فارس،
واستطاع رجال كعب أن يتصدوا للهجمات الفارسية القاجارية، ويسجلوا أروع
الانتصارات دفاعا عن ناصرية البو ناصر، ويعد سلمان بن سلطان بن ناصر من أقوى
الأمراء العرب، الذين حكموا هذه الإمارة، وشهدت في عهده الإصلاح والتقدم
والعمران، فحفر الأنهار وشق الترع، وأقام السدود ونظم الزراعة، واستطاع أن يبني
أسطولا حربيا جاب به مياه شط العرب وحوض الخليج العربي، وتعرض بأسطوله الحربي
للسفن البريطانية والفارسية والتركية، ونجح في الاستيلاء على سفينتين من سفن
شركة الهند الشرقية، لكنه اضطر في عام 1747 إلى نقل إمارته إلى الفلاحية في
الدورق بعد قتال عنيف دار بينه وبين الغزاة.
وفي عام
1767 م توفي الشيخ سلمان، وتولى الإمارة بعد وفاته أولاده وأحفاده، وكان آخر من
تولى هذه الإمارة هو الشيخ عبد الله بن عيسى بن غيث بعد وفاة أخيه الشيخ رحمة
بن عيسى بن غيث، واستمر الوضع على هذه الحالة حتى عهد الشيخ خزعل آخر وأقوى
الأمراء العرب في بلاد فارس.
زقورة ناصرية العرب
زقورة ناصرية العجم
الناصريتان معا
فالناصريتان مدينتان عربيتان عريقتان إحداهما تستلقي على ضفاف نهر الفرات،
بينما تستلقي الثانية على ضفاف نهر كارون، وتوحدهما تربة السهل الرسوبي لجنوب
الميزوبوتاميا الغنية بالعطايا والثروات، وتتعانق السفن القادمة منهما في مياه
شط العرب، فترسوا على مرافئ العشار والمحمرة والخورة وخزعل آباد.
تتمدد الناصرية الأولى بين بادية الخميسية والغبيشية واهوار الجبايش، وترتمي
الناصرية الثانية في أحضان المحمرة وجزيرة الخضر وتطل منها على اهوار الدورق
والفلاحية، ارتبطت الأولى ارتباطا وثيقا بمدينة (أور) وملوك المملكة السومرية،
وارتبطت الثانية بمدينة خاراكس، وكارخينا (الكرخة) وملوك مملكة ميسان، كانت
الأولى بطلة ملحمة الطوفان من دون منازع، واشتركت الثانية في بطولات ملحمة
الشاهنامة.
تأسست الأولى على يد الشيخ ناصر بن راشد السعدون، وتأسست الثانية على يد الشيخ
ناصر بن محمد الكعبي. تغنت الأولى برباعيات محمد سعيد الحبوبي، وحملت الثانية
رفات دعبل الخزاعي، كانت الأولى مهدا للنبي إبراهيم الخليل، وصارت الثانية مثوى
للنبي دانيال، فارتبطتا معا بروابط التاريخ والدم والدين والثقافة والنسب
والمصالح المشتركة، واتحدتا في مواجهة الغزاة والطغاة من الأتراك والفرس
والقاجاريين والبرتغاليين والبريطانيين، كانتا داليتان متفرعتان من فسيلة
واحدة، ولم تنشب بينهما أية خصومات أو نزاعات أو عداوات أو خلافات سياسية.
كانت الناصرية الأولى تناصر الناصرية الثانية وتتخندق معها ضد الغزاة، وكانت
الناصرية الثانية تنتصر لشقيقتها الأولى وتذود عنها. فسجلتا صفحات مشرقة ومشرفة
في سجلات المدن العربية الخالدة.
وما أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، واكتشفت بريطانيا حقول النفط لأول مرة في
مسجدي سليمان، ودور خوين، والشعيبة، والبرجسية، وتل اللحم حتى سارعت بريطانيا
وحلفاؤها إلى بسط هيمنها على الشرق الأوسط، وتقسيمه إلى دويلات وإمارات بموجب
معاهدة (سايكس بيكو)، ورأت بريطانيا أن من مصلحتها أن تحث الخطى باتجاه تنفيذ
مخططين استعماريين لا ثالث لهما، بعد أن وجدت نفسها بحاجة إلى إعادة النظر
بمصالحها المستقبلية في المنطقة، وعلى هذا الأساس وضعت نصب أعينها تنفيذ المخطط
الأول،
الذي قررت فيه التخلص من الإمارتين العربيتين المتمردتين على الأنظمة
الامبريالية، وهما إمارة ناصرية العرب، وإمارة ناصرية العجم، فضربت صقران
عنيدان بمنجنيق واحد، واستعانت لتحقيق أهدافها هذه بكل السبل الدولية المتاحة،
وسعت في المخطط الثاني إلى استبدالهما بإمارات عربية مستحدثة تدين بالولاء
والطاعة المطلقة للتاج البريطاني، فتحقق ما قاله الطغرائي في لامية العجم، حين
قال:
تقدمتني أناسٌ كان شوطُهمُ
وراءَ خطوي
لو أمشي على مهلِ
وان علاني من دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
وهذه هي الحقيقة المرة التي لم يفصح عنها احد، اما اليوم فقد تحولت بعض
الزعامات العربية إلى دمى تلهو وتتراقص على أنغام البنتاغون في مخادع ودهاليز
البيت الأبيض، وتتفنن في إنتاج وصناعة وتوزيع الدسائس والفتن، ما ظهر منها وما
بطن.
ماذا أقول ُ لطغمَة ٍ قد أصبحت ْ تحمي العدوَّ
وتقتل
الأصحابا
وجيوشُ قومي أصبحت ْ بسلاحِها تحمي الغريب َ
وتذبح ُ
الأحبابا
وعساكر ٌ ليستْ تساوي جَزْمَة ً وقيادةٌ
لا
تعْدِل ُ القبقابا
شبكة البصرة
الجمعة 23 جماد الاول 1431 / 7 آيار 2010
يرجى الاشارة الى
شبكة البصرة
عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا
تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط
المراجع
albasrah.net
التصانيف
أدب