توفي هذا الأسبوع المفكر العربي محمد عابد الجابري الذي حاول بكتاباته الناقدة عن العقل العربي أن يحرك البحيرة الفكرية الساكنة منذ دهر طويل. تأمل محمد عابد الجابري طويلا، وكتب كثيرا، أثار مشكلات، وتتبع حقائق، وأصاب في مواطن، ولعله، وهذا لا يضيره، أخطأ في أخرى. وكأن الذي حجب شمس الأفكار التي طرحها المرحوم الجابري عن عامة المثقفين، أنه كان يعيش عصر المأمون والأمة من حوله تعيش عصر الفتنة الكبرى. فالتأمل العقلي هو وليد الاستقرار والبلهنية، أكثر منه عصر القلق و الخوف والجوع.
 دارسون وكتاب كثيرون تعلقوا بما كتب المرحوم الجابري، وجلسوا على مائدته، واغترفوا من إنائه، بعضهم قرأه مؤيدا وبعضهم مشككا، وبعضهم  متعقبا، كتب الجابري في تكوين العقل العربي وفي نقد العقل العربي وكتب آخرون في نقد النقد وفي نفي العقل العربي، وإقالته، وفي نسبة الاستقالة ليس فقط إلى العقل وذويه، بل إلى الدين الذي يصر البعض على وسمه بأنه دين عربي.
 ولعل من المحاور المهمة التي عمل الدكتور الجابري رحمه الله على توضيحها، بذله الجهد الدائب لتصحيح الأغلوطة السائدة المتمثلة في الخلط بين منبع الفكر الإنساني ومصبه، أو بعبارة أخرى السياسات الاستعلائية التي تحاول استلاب البدايات لمصلحة الذين يمسكون بالنهايات.
وعندما أقول الأغلوطة السائدة أقصد التركيز على ما هو شائع عند عامة المثقفين والباحثين في الغرب، والذي يروج له الكثير من السياسيين من أن الفكر بدأ إغريقيا يونانيا وعبر رومانيا لينتهي أوربيا. شكل آخر من أشكال الادعاء للعرق الآري المتفوق. ووصف هذه الأغلوطة بأنها سائدة لا ينفي وجود بعض المنصفين والمدققين من العلماء الذين يرفضونها أو ينقضونها، ليردوا الحق إلى نصابه، وليقرءوا تاريخ الحضارة والإنسان قراءة متأنية موضوعية.
 بالنسبة إلينا نؤمن أولا بوحدة عالم الخلق كما نؤمن بوحدة الخالق. ونؤمن بكرامة الإنسان وبقدراته على اختلاف اللون والجنس والوطن التي تجعله مؤهلا للتكليف ومؤهلا للتفكير وقادرا على الإبداع. نؤمن بوحدة الحضارة الإنسانية، والمعرفة الإنسانية، وأن المعرفة في تراتبيتها الإنسانية لا هوية لها. ونؤكد على مكانة العقل البشري وقوانينه وميادينه.
 حين يتحدث الدكتور الجابري رحمه الله عن العقل العرفاني والعقل البياني والعقل البرهاني، يصر في مقارباته جميعا على وصل الجسور المعرفية التي يحاول البعض القفز من فوقها، كما يحاول تتبع منابع الأفكار والمذاهب والآراء في محاولة لرد الفضل لأهله.
 الانتقائية في التقويم الفكري الحضاري ليست فقط في مجالها الدعائي كما نلمسها اليوم في تبني كل الخارجين على الإسلام عقيدته وشريعته ومجتمعه، بل هي تاريخية ثقافية تجعل أبناء الإسلام يسمعون عن ابن الرواندي أو عن الحلاج أكثر مما يسمعون عن الغزالي أو عن إمام الحرمين.
 في كتاب قصة الفلسفة لول ديورانت صاحب قصة الحضارة بمجلداتها الضخام يسهل على المؤلف أن يقفز مباشرة من أرسطو إلى عصر النهضة متمثلا في فرنسيس بيكون، مهملا ألف سنة تقريبا من التاريخي الحضاري الفكري والفلسفي، ألف عام كانت فيها المسيحية وكان فيها الإسلام. الغريب أنهم يحاولون نزاعنا حتى على المسيحية، التي هي، إن تحدثنا بمنطقهم، ابنة الشرق العربي في كينونته التاريخية: الآرامية والكنعانية.
 في عالم الفكر وعالم العلوم يقفزون على كل شيء لا ينتمي إليهم، يذكرون ديكارت وينسون الغزالي( اقرأ المنقذ من الضلال )، ويذكرون اسبينوزا وينسون ابن رشد، ويذكرون هارفي ( ينسبون إلبه اكتشاف الدورة الدموية) وينسون ابن النفيس..
 جاهد محمد عابد الجابري لربط الجسور وعمل على ذلك، حاول أن يؤشر على القبل، حيث كانت البدايات التي توقف الجابري عندها في الاسكندرية وطيبة وأنطاكية والرها وحران وبلاد الرافدين.
 أعيد في أسبوع وداع الجابري المفكر العربي الراحل على مسامع الذين كايدوه أو ناقضوه، قول المفكر الفرنسي بيير روسي في كتابه التاريخ الحقيقي للعرب: إن أوربا ليست مركز العالم ولا مرآة العاهل الفاضل، ذلك أنها لا تمثل وهي ابنة الشرق الأفريقي والأسيوي، وفي محيط الزمان والمكان هذا سوى منطقة تتمرس وتتدرب فيها قوى كانت تجذبها... لكنما الأحكام المسبقة تبقى، وتعليما مذهبيا يزيف آراءنا وأحكامنا ويزورها. نعتقد أن دروس التاريخ التي نعلمها في مدارسنا ليست مطابقة لتلك الدروس التي تعلمها القاهرة وطهران وكابول وكلكتا وليست هذه هي الحقيقة ذلك أننا لم نقم الدليل ذات يوم على صحة ادعاءتنا في تعليم الأمم غير الأوربية...
 شهادة تؤكد أن الذين آل إليهم إرث الحضارة الإنسانية اليوم لم يرثوها كابرا عن كابر. وأن  للأفكار والعقائد تاريخا من الوفاء الإنساني أن يحافظ المتحضرون عليه.
 لقد صار الدكتور الجابري إلى ربه وأفضى إلى ما قدم تاركا وراءه سفرا من الأفكار. الأفكار التي يجب أن تُعلم وتُحرك وتجدد، وقبل كل ذلك أن تأخذ مكانها من الفهم والتقويم.
رحمه الله

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع