ما أقرب الشاعر المرحوم حافظ إبراهيم إلى قلبي ، فهو صاحب القصائد الرائعة الدالة على شاعريته المبدعة ! .. لقد كنت أحفظ كثيراً من هذه القصائد وما أزال ، وأخص بالذكر شعره عن المرأة في قوله :
   الأم مدرسة إذا أعددتَها                    أعددْتَ شعباً طيب الأعراق
   من لي بتربية النساء فإنها              في الشرق علة ذلك الإخفاق
وصدق والله ، فالأم مدرسة الرجال وحاضنة القادة ومربية الأجيال .
وهو في القصيدة نفسها يذكرحظوظ الإنسان فيما رزقه الله تعالى إذ يقول :
   فالناس هذا حظه مال وذا     علمٌ وذاك مكارم الأخلاق
   فالمال إن لم تدّخره محصّناً    بالعلم كان نهاية الإملاق
   والعلم إن لم تكتنفه شمائل     تعليه كان مطية الإخفاق
   لا تحسبنّ العلم ينفع وحدَه      ما لم يُتوّج ربه بخلاق
فهو هنا بالإضافة إلى شاعريته ينال حظاً من الحكمة وبعد النظر وفهم الحياة .
وما أروع قصيدته في وصف لغة القرآن إذ يقول :
   رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي        وناديت قومي فاحتسبت حياتي
   وسعت كتاب الله لفظاً وغاية      وما ضقت عن آي به وعظات
ثم يجعلها البحر الزاخر الذي يحوي الكنوز العظيمة والدرر الثمينة التي لا تبلى على كر الدهور ومر العصور ويعرفها كل لبيب أديب أريب :
    أنا البحر في أحشائه الدر كامن                      فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
وقد نجح أيما نجاح في بذل شكاة اللغة من إهمال أهلها لها ، وسكونهم إلى همهمات غريبة ولغات هجينة ، فضاعوا في تقليد الغرب والغرباء .
وأقف في محراب قصيدته العمرية  تلميذاً مشفقاً ومريداً عاشقاً أملأ قلبي وعينيّ من ألق أسلوبه ، وأرشف من معين بيانه ، وأرتوي من لذيذ أدبه حين أتابعه وهو يقول :
      حسب القوافي و حسبي حين ألقيها       أني إلى ساحة الفاروق أهديها
      لاهُمّ هب لي بيانا أستعين به              على قضاء حقوق نام قاضيها
      قد نازعتنيَ نفسي أن أوفيها               و ليس في طوق مثلي أن يوفيها
      فمُرْ سرِيَّ المعاني أن يواتيني           فيها فإني ضعيف الحال واهيها
فهو يسأل الله تعالى أن يهبه القدرة على إن يوفي فاروق هذه الأمة بعضاً من حقه على الأمة ، ويرى نفسه بين يدي هذا العملاق يحمل أمانة نشر ضوعه شعراً لن يستطيع أن يوفيها إلا بمدد من الله تعالى فأمير المؤمنين عمر سيد هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وصدّيقها الطاهر أبي بكر رضي الله عنهما وأرضاهما ..
وأقرأ قريب مئتي بيت في هذه الملحمة العظيمة فأرى حافظاً يتألق في كل بيت ، يشيدها متينة السبك مشرقة المعنى سامقة البنيان ، ينثر فيها حِكَمه وتجاربه ويعيش قلباً وفكراً مع السيد الحبيب العظيم عمر رضي الله عنه فيتحدث عن إسلامه وعلاقته بالنبي الكريم وأصحابه الطيبين وعدله في الناس وزهده وورعه وتقواه وقيادته الحكيمة  وورعه وتقشفه .. واقرأ معي هذه الأبيات لترى عظمة الخليفة في بساطته وتواضعه حين يصور شاعرنا موقف صاحب كسرى إذ جاءه فوجده دون حرس بعيداً عن مظاهر الأبّهة الخادعة والرسميات الكاذبة :
        و راع صاحب كسرى أن رأى عمرا        بين الرعية عطلا و هو راعيها
        و عهده بملوك الفرس أن لها              سورا من الجند و الأحراس يحميها
        رآه مستغرقا في نومه فرأى                فيه الجلالة في أسمى معانيها
        فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا          ببردة كاد طول العهد يبليها
         فهان في عينه ما كان يكبره                    من الأكاسر والدنيا بأيديها
        و قال قولة حق أصبحت مثلا                و أصبح الجيل بعد الجيل يرويها
        أمنت لما أقمت العدل بينهمُ                   فنمت نوم قرير العين هانيها
ولعل القارئ حين يقف أمام هذه اللوحات التي رسمها الشاعر العبقري لأمير المؤمنين عمر ينتشي بروعة الشخصية وجمال الفكرة وعظمة الأسلوب ، فيرى نفسه بين عبقريين رائعين هما الخليفة عمر الفاتح لبلاد العرب والمجوس والروم رضي الله عنه وأرضاه ، والشاعر الفذ حافظ إبراهيم تغمده الله برحمته وغفر له .
وما أعظم قصيدته التي يمدح فيها مصر وبلاد الشام ، يقول فيها
   لمصر أم لربوع الشام تنتسب    هنا العلا وهناك المجد والحسب
  ركنان للشرق لا زالت ربوعهما    قلب الهلال عليهما خافق يجب
إن الشاعر الموهوب يرى الموطنين – مصر وبلاد الشام - قلب الأمة وركنها الركين في الماضي والحاضر، عزهما عز الأمة ، وهو  يرى – ونحن معه - أن المصير واحد وأن الآمال واحدة ، فاتصالهما منذ الأزل يدل أنهما جزء واحد ومصير واحد :
    اذا ألمت بوادي النيل نازلة               باتت لها راسيات الشام تضطرب‏
    وإن دعا في ذرا الأهرام ذو ألم           أجابه في ثرى لبنان منتحب
    لو أخلص النيل والاردن ودهما          تصافحت فيهما الأشجار والعشب‏
فأين كان الشآميون كان لها              عيش جديد وفضل ليس يحتجب‏
هذي يدي عن بني مصرتصافحكم      فصافحوها تصافح نفسها العرب‏
ومن شهامة حافظ إبراهيم أنه يمد يده إلى العرب جميعاً نيابة عن مصر وأهل مصر ، فهو يمثل أطياف المصريين دون أن يكلفوه أن يمثلهم لأنه يعلم علم اليقين أصالة المصريين وحبهم لإخوانهم ونزوعهم إليهم ، فقد كان المصريون وما يزالون قلوب المسلمين النابضة وألسنتهم المعبرة بصدق عن آمالهم وتطلعاتهم .
ولم يكن هناك حاجة أن يطلب منا أن نصافح إخواننا المصريين ، فنحن مذ وعينا التاريخ نرى أنفسنا والمصريين أبناء أمة واحدة عظيمة تتعانق أفئدتهم وتتصافح أرواحهم .. ويعملون لهدف واحد نبيل .... أليس هذا صادقاً ؟ هذا ما أرى نفسي تؤمن به وتعتقده ، أفأنت – يا أخي المصري - مثلي ؟ أعتقد ذلك تمام الاعتقاد وأومن به كمال الإيمان ....
ومع ذلك فهات يدك وصافحني ، فأنت أخي وشقيقي وحبيبي رغم المضللين والمفرّقين الكائدين .
 

المراجع

saaid.net

التصانيف

أدب  مجتمع