قبل الحرب بأيام قليلة صرت أكثف جولاتي في المدينة التي وقعت بعشقها من أول (شفة) ماء. رحت أتحسس أسواقها ومساجدها وشوارعها ونخيلها ووجوه أهلها بكل شغف. فشعرت بذلك الهدوء المخيف ، الذي يمهد للعاصفة.
في ذات المساء وقفت فوق جسر الجمهورية متأملاً نصب الحرية الشهير. بعدها حدقت باكياً في دجلة الخير تحتي. الأنوار الملونة كانت تلمع في صفحة النهر كنجوم حطت أرضاً بألقها وكامل وهجها. وخيال النخيل صار متماوجاً بعذوبة قصيدة (سيابية) ، فهمست لنفسي: لا يمكن أن يجرؤ أحد في الدنيا ، ويقصف هذه المدينة الوادعة،.
قبل عشرين سنة كنت سنفوراً (طالب سنة أولى جامعة) ، لم يمض على وجوده في في بغداد إلا بضعة أشهر. وطبول الحرب تخفق كقلب واجف لجيوش ثلاثين دولة تتحمحم لصب حممها في أرض السواد: تباً للحرب.
ركبني عناد مجنون ثانْ ، فلم أهرب بجلدي قبل الحرب ، رغم إلحاح هواتف الأهل ، فقد انتابني شعور عنفواني. كيف أترك بغداد وقد عشقتها؟،. وهل أنا أحسن من أهلها ونخيلها الذين سيتلقون القنابل والنيران؟،. كنت خائفاً عليها. عنادي الأول كان حين فضلت بغداد الموعودة بالحرب على الدراسة في ثلاث دول أتاحتها لي بعثة وزارة التعليم العالي. هل كنت مجنوناً ، كما ينبغي؟،.
ليلة الحرب التي نعيش ذكراها العشرين هذه الأيام ، سهرت بصحبة كثير من الطلبة العرب الذين تجمعوا في اتحادهم بمنطقة الوزيرية. وحين انفض السامر ، وذبلت الأغاني البركانية ، سرت ورفيقي إلى شقتنا في حي المغرب. كانت الشوارع خالية إلا من هاجسي الخافت:لا ، لن يضربوها ، وسيخجلون من نجوم دجلة اللامعة،،.
لم أنم ، لأني كلما أغمضت عيني ، رأيت سوراً من نار يطوق المدينة. فنهضت مسرعاً كاشفاً ستائر الشباك صراخاً: يا إلهي ، إنه جدار النار ، الذي ظل يراودني عن نومي ، ها هو يلمع في البعيد ، ها هم هموا بحبيبتنا. قم يا صاحً. هي الحرب التي كذبنا أمرها من قبلُ ، ومن بعد.
لم يفتح باب الملجأ إلا كسراً بركلة ظل يطالبني بثمنها صاحب العمارة. فحين رايت النساء والأولاد المقطوفين من لجة نومهم ، لم يكن أمامي إلا أن أكسر الباب اللعين الذي استعصى على المفتاح. علهم يدخلوا ويفرخوا روعهم. تباً لصافرة الحرب.
لم يرق لي أن أبق قرب الملجأ ، ولم اشأ أن أترك حبيبتي ، فصعدت سطح العمارة متحججاً بقطف ثياب لم تجف عن حبل غسيلي. رحت ألعن بكل صوتي تلك النيران والصواريخ ومطلقيها،. فينعتني صاحبي شاتماً: يا مجنون. انزل. أتحسب القنابل مطراً؟،.
سلام على بغداد في الذاكرين.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة رمزي الغزوي جريدة الدستور