قبل تسع سنوات من الآن شاءت الاقدار ان نشهد يوم الاستقلال في الولايات المتحدة، في احدى البلدات الصغيرة لاحدى الولايات هناك. وهذا اليوم يسميه الشعب الاميركي الرابع من تموز. وضمن برنامج الزيارة، شاركنا احدى العائلات الاميركية احتفالها بهذا اليوم، الذي كان جماعياً لكل اهل البلدة، عبر التجمع في احدى الحدائق العامة الكبيرة، وقضاء يوم رحلة جماعية، يقومون فيه بشوي الدجاج واللحم، وتناول الغداء مقابل مبلغ مالي، وألعاب اطفال. وفي المساء، عودة لمشاهدة مهرجان للألعاب النارية. لكن المفارقة ان احدى الصحف نشرت في ذلك اليوم نتائج استطلاع ظهرت فيه نسبة ليست قليلة ممن لا يعرفون عن ذلك اليوم سوى انه يوم عطلة للتنزه والغياب عن العمل.
ومشكلة الايام الوطنية او المناسبات الكبرى ليست في قيمتها، فهي عناوين سامية لكل شعب ودولة وامة، ولا يستقيم بناء علاقة انتماء ذات مضمون دون ان يرتبط المواطن مع ايام وطنه وشعبه وأمته. لكن مشكلتها في طريقة إدارتنا لها، ولهذا فقد سجلت دولنا امتيازاً في تحويل ازهر المناسبات الى ايام رتيبة، لا تختلف عن الاحتفال الممل بعيد الشجرة او يوم الصحة العالمي. واصبح في ذهن المواطن صورة نمطية مكررة لهذه الايام.
والمشكلة الاخرى اننا في دولنا نختزل كل مراحل اوطاننا في الحاضر، اما الماضي، الذي قد يمتد عقوداً وقرونا، فإننا نختزله في جمل اشبه بما يتلى في حفلات التأبين، وكأن من مضى هم عالة على الحاضر. اما الغناء والشعر والخطابات والصور والاستفاضة في الحديث عن الانجازات فإنها للحاضر. ولهذا، فالمناسبات الكبرى هي اشبه باحتفالات بالاحياء، مع ان صانعيها ممن ماتوا بعد ان ادوا واجبهم. فلا غرابة عندما نتابع احياء دولة لذكرى معركة وانتصار عسكري على اسرائيل ان يتم تجاوز قائدها السياسي الذي قضى، والمرور عليه سريعاً، اما الصورة والتركيز فعلى الاحياء. وهكذا، فإن كل احتفالات شعوبنا تمارس نفاقاً للواقف الحي، وتجاهلاً جزئياً لا يخلو من ضعف وفاء. ولعل اثقل المهمات على إعلام شعوبنا وشعرائهم تلك الخاصة بالمناسبات، لأن على هؤلاء ممارسة رتابة وبلاغة تبقى في حدود شكليات المناسبات، ولأنهم يعلمون ان كل هذا الانتاج ليس له رواد أو قراء أو متابعين، حتى من المسؤولين، باستثناء الموظفين المعنيين بإعداد افتتاحيات الصحف لبرامج الاذاعة والتلفزيون. ولا نكون مبالغين إن قلنا ان هذا الانتاج في المناسبات شبيه بمن يطلب منه ان يكتب عن كأس العالم عام 1970، الذي فازت به البرازيل مثلاً، مع ضرورة ان يركز على مدرب الفريق البرازيلي الذي يدرب الفريق الان في عام 2005، مع جملة معترضة عن المدرب الذي جاء بالكأس عام 1970.
واذا عدنا لأصدقائنا الاميركيين، فإن يوم الاستقلال عام 1996 شهد العرض الاول للفيلم السينمائي الشهير "يوم الاستقلال"، الذي سجل رقماً قياسياً في عوائده المالية، لكن المهم انه حاول خدمة فكرة الاستقلال عبر صناعة قضية تجمع الشعب الامريكي. ويفترض الفيلم ان البيت الابيض والعاصمة واشنطن تعرضا لهجوم من قوى خارجية. ولعل فكرة الفيلم لم تخرج عن فكرة الهجوم الذي حدث في الحادي عشر من أيلول، والذي اعاد انتاج السياسة الدولية، لكن ما يعنينا ان الانتماء وتعزيره، في اي امة، هو صناعة واحتراف، ويحتاج كل شعب الى قضية يتوحد من خلالها مع نفسه. والقضية قد تكون معركة، او انجازاً، او مشروعاً، او رموزاً حقيقية وليست اعلامية. لكن امتنا تحب ان تستغرق في الانشاء والشعر والغناء، باعتبارها عوامل وحدة للشعوب، بينما نمارس سياسات تفعل كثيراً في نقض عوامل الانتماء وولاء الشعوب لأنظمتها وبلدانها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة