كيف تتناسل المؤتمرات؟
الصيف كان جنة لنا. جنة عرضها مرحنا المجنون، وشقاواتنا العابرة للحارات والأزقة. كان صيفاً يانعاً يصيرُ فردوساً بعد أن نهرع لجداول الماء بين البساتين، نمخرها بأجسادنا المكتفية بعريها المنزلق، فنتبلبط كسمك منزوع للتو من روح الماء
.
في الصيف كنا نسرق ما طاب من ماء البراميل والجرار، خلسة عن عين الأمهات والخالات؛ لنجبل طيناً نشيّد به بيوتاً تطاول أحلامنا الشاهقة. أو نقيم أعراسنا شبه الخجولة هناك. الصيف ربيعنا المصفى خالص، فلا مدارس تقلقُ صباحاتنا الكسولة، ولا آباء نزقين، يجبروننا على نوم كنوم الدجاج بعد العشاء | ، بل كنا نعتلي صهوة البيوت ليلاً، نرتمي فوق فراش خفيف تحت شارع المجرة، ثم نسامر غيوم الندى الناعمة، ونمعن عداً بالنجوم، رغم تخويف الجدات: كل نجمة بثألولة | .
في تموز، لم تكن المولات والأسواق الكبرى محجاً لأمهاتنا الطيبات، بل كان الصيف يجعل منهن قرية نمل تعجُّ بالنشاط. فأول الموسم يشغلهن القمح بتنقيته من التراب والزوان، وتصويله، ثم سلقه؛ لتحويله إلى (برغل)، بعد التجفيف والجرش. ثم تأتي طقوس تحضير اللبنة البلدية، إذ (يشخلن) اللبن الرايب في كيس قماش ابيض، يتخلص من مصله، على مهل، ثم يكورن اللبنة كثيفة القوام على شكل طابات يغرقنها في زيت الزيتون. وياما تمسكنا وتمسحنا بهن كقطط بريئة، من أجل لعقة لبنة من طرف أصابعهن. ياااااااه، ما زالت خالدة في سقف لساني تلك اللحسات | .
الصيف كان موسماً للملوخية بامتياز. فالحارة كلها تشتري من ذات السيارة الجوالة (عبطات) كبيرة كالجبال من الملوخية، وثم تعكف الأمهات بعد أن يتركننا نسرح في ملكوت الله، يعكفن في خلوة لتشريط وقطف الملوخية، في مؤتمرات خاصة تحت شجرة توت أو ليمون، في حوش احد البيوت، بعد أن يسند بطانية صغيرة لحجب بعض الشمس. وكلما اقتربنا من حلقتهن متسللين، يأخذن بالهمس، وكأنهن يخفين سراً عظيماً، ثم يطردننا بفيض من الشتائم الخاصة بالآباء. يا ترى بماذا كن يهمسن؟ | .
مؤتمرات أمهاتنا البسيطة، كانت تسفر في نهايتها عن خزين استراتيجي من الملوخية الناشفة، تفيدنا في الشتاء، كطبخات لذيذة. ولكنَّ كثيراً من المؤتمرات العامرة برفاهية فنادق الخمس نجوم، لن تسفر في نهاياتها، إلا على توصيات مشددة بعقد مؤتمرات ثرثرة أخرى.
بقلم رمزي الغزوي
المراجع
addustour.com
التصانيف
صحافة رمزي الغزوي جريدة الدستور العلوم الاجتماعية
|