هذا المقال ليس مشروع قصيدة او اغنية او انشاء، لكن الفكرة كانت الكتابة عن الشهيد الطيار فراس العجلوني، احد ضباط الجيش الاردني الذين قضوا في مواجهة العدو الصهيوني، فقد سررت كثيرا عندما رأيت درسا في احد الصفوف الاساسية عن الشهيد، يتحدث عن قصة استشهاده؛ لكنّ اتصالا هاتفيا عاتبا، او ربما حزينا ايضا، جعل للمقال مسارا اضافيا.
فصاحب الصوت عبر الهاتف احد رجال معركة الكرامة، التي تمثل عنوانا من عناوين بطولة الجيش العربي الاردني، وكل صاحب بندقية صادقة. وهذا الرجل الاردني من احدى محافظاتنا الصادقة، ومن عشيرة لها تاريخها ورجالاتها. وقد بدأ حديثه مندهشا وحزينا لأن احد معارفه اتصل به يأخذ اسمه وعنوانه، ذلك أن محسنا من اهل الخير ينوي توزيع زكاته وصدقته في شهر رمضان، وقد أحب الصديق ان يكون المتصل ممن يشملهم الاحسان والصدقة.
ويقول هذا الرجل: نحن من تغنى بنا اهل عمان بأننا "ربع الكفاف الحمر"، ونحن من قاتلنا في الكرامة وغيرها، واعطينا الامن والامان لمن تصدّروا كل مجلس، وامتلأت جيوبهم وارصدتهم بالمال والالقاب!
هذا الرجل من جرحى ومصابي معركة الكرامة، واصاباته تشكل قائمة طويلة، منها فقدان عينه اليسرى وضعف إبصاره، وشلل نصف الوجه، وغياب السمع في الاذن اليسرى، واصابة بالغة في الفك العلوي. ومع تكرار العمليات لاصاباته، اصيب بمرض في القلب، واجريت له جراحة العام 1981! لكن تخيلوا ان راتب الاعتلال الذي حصل عليه عند تقاعده العام 1975 يبلغ الان 175 قرشا، وأما مجموع راتبه التقاعدي فهو 130 دينارا اردنيا، اي اقل من الراتب الذي يصرفه صندوق المعونة الوطنية!
وكما يقول، فانه كان يتمنى ان يستطيع ان يروي لابنائه القصة المشرفة لتاريخه كاملة، لكن ماذا يقول لاسرة من 11 شخصا ترى مصابا بكل هذا في موقعة مشرفة لكل الاردنيين، فيما دخله لا يكاد يكفي لشراء الخبز؟! بل ويذكر أن راتب الاعتلال لأحد رفاقه هو 67 قرشا، فيما اخرون حصلوا على 1000 دينار او اكثر، وعادوا بعد تقاعدهم مرة بعد مرة للعمل في مواقع كبرى.
القصة ليست لهذا الاردني او امثاله، بل هي حالة عامة، تتعلق بمجموعة من التشريعات او الاجراءات التي تكفل لهؤلاء حياة كريمة. فنحن نحتج دائما بالقانون، لكن الحكومات عدلت مئات القوانين بسرعة قياسية، بل واصدرت احدى الحكومة حوالي "230" قانونا مؤقتا، وبعض القوانين تم تعديله مرتين خلال اشهر، وعندما ارادت حكومة سابقة اعطاء النواب والاعيان حق التقاعد عدلت القانون، وعندما تكون هناك مصلحة لقطاع هام يجري تعديل القانون بسرعة، فلماذا تصيبنا الرزانة والوقار عندما يتعلق الامر بفئة مظلومة، قدمت الكثير للاردن؟! هل من الوفاء ان ينهي هؤلاء حياتهم بالشكوى، وان يتحولوا الى مقصد لاهل الاحسان لتقديم الصدقة لهم؟!
قبل اسابيع، جاءنا رد تم نشره حول راتب زوجة شهيد قضى العام 1967، وكان الحوار: هل راتبها 50 او 40 دينارا؟ وحتى لو كان 100 دينار، فهل هذا انسجام مع مرتبة هؤلاء؟ ولماذا ندقق بالقانون ولا نحاول تعديله، بينما البعض عندما يتولى المسؤولية عدة سنوات يخرج منها ولديه قصر كبير، واثناء عمله تعمل لديه سيارات عديدة من ذات المحركات الكبيرة، وقد لا يكون لبعضها دور سوى شراء الخبز والبصل، وبعضهم يخرج من موقعه فتتبعه سيارة فخمة هدية على انجازاته! فهل يكافأ صاحب البطولة براتب اعتلال من قروش؟!
القانون في جوهره صياغة لقيم المجتمع في تشريع ينظمها. والقصص ليست في اشخاص يعانون، بل في منظومة تشريعات. فهذا الشخص، من "ربع الكفاف الحمر" الاوفياء يشكر للجمعية الخيرية الهاشمية ايجابيتها معهم، لكن لا يجوز ان يبقى بعضنا يغمض عيونه عما يجب فعله. فلاعب كرة يعتزل تقام له مباراة، ويتم تكريمه بآلاف الدنانير! فأي تشريعات تستعصي على التعديل لإكرام هؤلاء الذين لا يمنون على الاردن بما قدموا، والله تعالى -وله المثل الاعلى- قدم للشهداء كل النعيم، فكيف بنا نضطر مثل هذا الاردني إلى البحث عن وسيلة لتوفير دخل يكفيه واسرته لحياة كريمة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة