ما دمنا نتحدث عن اصلاح سياسي، فلابد ان نتوقف عند احد الاسباب المهمة لحالة الشد والتنافر بين السلطة التنفيذية ومعظم القوى السياسية والحزبية الناشطة منذ عقود، وهو حالة عدم الثقة وقناعة الحكومات بان معظم هذه القوى مغتربة، ليس عن الحكومات بل عن الدولة، وان لها امتدادات وعلاقات وتوجيهات خارجية، او أنها في الحد الادنى تقف في خندق سياسي ووجداني لا يمكن ان يلتقي مع خندق السلطة التنفيذية او المسار العام للدولة.
وهذا الامر له نصف اخر، وهو ان السلطة التنفيذية لم تنجح في تكوين حالة سياسية شعبية عبر مؤسسات المجتمع المدني تتبنى طروحاتها. وهذه المشكلة تجعل الساحة، احيانا، تبدو معركة انتخابية بين قوى معارضة وبين اجراءات حكومية، او مناكفات سياسية واعلامية.
وحتى لا يذهب الخيال بعيدا، فانني لا اتحدث هنا عن امتلاك النظام لحزب سياسي، فهذه الفكرة لا تصلح في الاردن، وقد تتناقض مع احدى التضاريس المهمة لمؤسسة الحكم التي تمثل كل الاردنيين، ولا يمكن اختزالها في حزب مهما كان نشيطا او مدعوما او قويا، ولا يمكن ان تخوض مؤسسة الحكم معركة انتخابية في بلديات او برلمان او نقابة مهنية انحيازا لحزب او قائمة.
ما نتحدث عنه هو وجود حالة سياسية من الناس المنحازة الى خيارات السلطة التنفيذية، تمارس عملا سياسيا تطوعيا يمثلها، لكنه يقترب من طروحات السلطة التنفيذية ويتقاطع معها، وتجد فيه ما تفتقده لدى معظم قوى المعارضة من امان واطمئنان. ولعل لجوء الحكومات دائما الى القوانين القاسية او غير الديمقراطية ليس اكثر من تعبير عن عجز في خوض بعض الميادين وفق معادلات التعددية.
واحيانا، تخوض بعض القوى المقربة من السلطة التنفيذية معركة انتخابية في نقابة مهنية ليس على قاعدة القوة والحضور الذاتي، بل في تحالف غير مفهوم، تختلط فيه قوى تبدو متناقضة وربما لا يجمعها سوى الخصومة مع القائمة الاخرى.
والقضية ليست في عدم وجود قواعد شعبية او سياسية تؤمن بطروحات السلطة التنفيذية، بل في التنظيم والدافعية. فحتى ابناء هذا المعسكر يعتقدون ان "الدولة تأخذ حقها بيدها"، ولهذا اعتاد هؤلاء من الحكومات ان تتخذ اجراءات، لكنها لا تقوم بأي فعل لتنظيم نفسها او امتلاك حضور مؤثر.
واحد مظاهر هذه الحالة ان الوظيفة والموقع هو التعبير عن معسكر الحكومة او السلطة. ولهذا، نشأت مدرسة يقاتل فيها احدهم من اجل ان يكون وزيرا او مسؤولا، لكنه ليس مستعدا لان يبذل اي جهد دفاعا عن قناعاته او استحقاقات وجوده في معسكر السلطة التنفيذية. اما عامة الناس، فيجتمعون على قضايا وطنية عامة والولاء غير التفصيلي، لكن ليس وفق قواعد تنظيمية او عمل عام او سياسي تطوعي عام.
وحتى الاحزاب التي تقدمت تحت لواء التيار الوطني الوسطي، فانها عانت من مشكلات ذاتية، كما ان روح الخوف او الرغبة في الاجراء الوقائي من قبل السلطة التنفيذية دفع هذه التجربة الى التشرذم. وربما اخطأ بعض قادتها حينما غرقوا في رغوة المظاهر، ونمت في خيالاتهم احلام السلطة الشخصية والزعامة الذاتية، ولهذا انطبق عليهم قانون تحجيم الكتل الكبرى، ولم تستطع هذه القوى ان تطرح نفسها ممثلة لفكرة او طروحات بقدر تمثيلها لاشخاص، اخطأت حساباتهم وألسنتهم التقدير والتصريح فدفعوا ثمنا مبكرا لهذا.
لعل من مصلحة التنمية السياسية والاصلاح للحياة السياسية ان تمتلك السلطة التنفيذية ادوات للعمل الديمقراطي تكون قادرة على إزالة الخوف وانعدام الثقة، ادوات لا يعني وجودها حزبا للسلطة، ولا تعني هدرا للقانون انحيازا لها، لكنها حالة سياسية وعامة، تكون الاساس للجوء دائما الى الخيار الديمقراطي. وهذا الامر ليس مسؤولية الاحزاب الاخرى إيجاده. وقد يبدو ظهور مثل هذه الادوات صعبا مثل صعوبة تحول بعض هياكل احزابنا الى قوى فاعلة، لكن ضرورة وجود مثل هذه الادوات اهم احيانا من بعض التشريعات والحوارات.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة