جوهر موقف حكومة شارون انها تتمنى ان لا يكون هناك شعب فلسطيني على ارض فلسطين. وبدرجة اكثر واقعية، فانها ترفض وجود اي سلطة او رمز لدولة او مقاومة. ولو كان الامر بيد دولة الاحتلال لقامت بإبادة السلطة وحماس، بل وكل صوت عربي او مسلم.
لكن هذا الموقف او الامنيات تصطدم بواقع اكبر من قوة الاحتلال، واقع يفرض على حكومة شارون ان تفكر بطريقة ترى فيها مصلحتها، وبخاصة بعدما ثبت لها ان قوتها العسكرية والامنية لم تحقق لها ما تريد من أمن. لهذا كان الخيار السياسي الذي تمثل في خطوة الانسحاب من غزة، وما سبق هذه الخطوة من تمهيد عبر الهدنة السياسية العسكرية. ولعل الفكرة الاساسية التي تحكم جزءا من التفكير السياسي لحكومة الاحتلال، وربما تشاركها فيها اطراف دولية واقليمية، ان السبيل الاهم لاعادة هيكلة الساحة الفلسطينية المقاومة يكون عبر محاولة دمج حماس في الهياكل السياسية للسلطة، بحيث تمنح حماس عن طريق صناديق الاقتراع حقها في الحضور في السلطة والحياة "المدنية" الفلسطينية. وهذا الامر ليس سهلا على شارون او على حملة هذا الاقتراح، لكنه مخرج او محاولة لزيادة منسوب العمل السياسي والاجتماعي، وتأهيل حماس حركة سياسية خدماتية، واستغلال التحول في مسار قطاع غزة من منطقة محتلة الى ارض تحت سيادة السلطة الفلسطينية.
وحين يهدد شارون بعرقلة انتخابات المجلس التشريعي، التي ستجري بداية العام القادم، اذا ما شاركت حماس فيها، فان هذا التهديد غير واقعي. فبغياب حركة حماس ليس هناك انتخابات، لان المعركة الانتخابية بشكل اساسي هي بين حماس وفتح، ويعلم شارون انه لن يستطيع منع حماس من المشاركة. بل ان الحاجة الاستراتيجية لكيان الاحتلال هي ان يشارك الجميع، وان تندمج حماس اكثر ما يمكن في مؤسسات السلطة، وهذا الامر لن يأتي مجانا بل له ثمن قد تدفعه اسرائيل، كما ستدفعه السلطة من نفوذها في الشارع والمؤسسات، لكن الاختيار بين "شرين" من وجهة نظر الاحتلال.
وتهديد شارون بعرقلة الانتخابات التشريعية قد لا يكون اكثر من محاولة لإضفاء لباس نضالي على العملية الانتخابية، وان الترشح والمشاركة فيها رد لكيد اسرائيلي، اي محاولة لتحفيز الحالة الفلسطينية باتجاه مشاركة الجميع وتعميق الحالة السياسية.
ما نقوله لا يعني ان الانتخابات والمشاركة فيها خدمة للسياسة الاسرائيلية او تورط في مؤامرة، لكن سياق الامور دفعت اسرائيل إلى القبول بخيار العملية السياسية حتى لو كانت ذات ثمن، مقابل محاولة توطين حماس سياسيا على حساب العمل العسكري، بخاصة وان الانسحاب من غزة اضعف من ضرورات المقاومة من غزة، وجعل الامر استمرارا للهدنة التي أدت الى وقف العمل العسكري المقاوم ضمن سياق سياسي واتفاق اقليمي دعما لرئيس السلطة الجديد ابومازن. وكانت الهدنة ارضية سياسية لإتمام شروط انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة.
وهذا الخيار السياسي الذي تتجرعه حكومة شارون لا يعني تخليها عن نهجها في العدوان والملاحقة، لان كيان الاحتلال مسكون بعقد لا تنتهي من الخوف والريبة من الاخر، حتى لو كان طرفا يمارس العمل السياسي مثل السلطة. ولهذا، سيبقى الخيار الامني والعسكري جزءا اصيلا من ادارة الصراع.
ولعل من المفيد التذكير بان حكومة شارون لا تقدم الخيار السياسي لوجه الله تعالى، لكنها تحاول استثمار كل ابتسامة تضعها على شاشات الفضائيات. ولهذا، فهي تحاول بسرعة قطف ثمار خيارها السياسي بفتح كل اشكال العلاقات مع ما أمكن من الدول العربية والاسلامية. ولعلها تجد امامها فرصة ذهبية في تطبيع واسع مع المحيط العربي والاسلامي لا تود هدرها، فما تحقق خلال الاسابيع الماضية ثمن سياسي كبير حصلت عليه حكومة شارون.
وما حصل في غزة مؤخرا من عدوان وقتل بحق الفلسطينيين جزء من منهجية الاحتلال، لكن من المؤكد انه لن يخرج بالمنطقة عن مسار حقق لإسرائيل الكثير من اهدافها، وبخاصة بعد العقلانية العالية من حماس بتمسكها بالهدنة رغم كل القصف الاسرائيلي. فهذه "العقلانية" دليل على حجم التأثير لعلاقات حماس مع دول وهيئات في قرارها، وتأكيد على أولوية العمل السياسي في مسار الحركة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة