غسالة بمليون دورة في الدقيقة 

 

كنت أغافلُ عين أمي، وأسرق (الشاروط) من تحت حبل غسيلها، لأمتطيه حصاناً يصهلُ في المدى، وأبارز أشراراً يدهمون حارتنا، ثم أرمحُ غير آبه بوعيد أمي، بأخذ جزاء عادل حين تغيب الشمس. والشاروط هو عصا طويلة كانت تستخدم لرفع الحبال المثقلة بالثياب المبلولة لوجه الشمس والجفاف.

حبال الغسيل في شرفات وفضاءات البيوت، كانت مرايا صادقة لجماليات ربة البيت. وأقرب ما تكون إلى لوحات فنية، وتسعى كل امرأة ليكون حبل غسيلها أكثر إدهاشاً وهندسة وتنسيقاً، لا تتخالط فيه غرائب الألوان. فهو محل للتباهي والتفاخر والتمايز.

وبعيداً عن الغسالات الحديثة، ذات ثلاث آلاف الدورة في الدقيقة، لم يكن الغسيل سهلاً، ولا ترفاً في أغنية للفنانة نانسي عجرم، بل كان هماً ثقيلاً. فبعد أن تفرغ الأم من إطعام أطفالها، وهندامهم، وتشييعهم لمدارسهم، تهرع إلى الحطب، وتشعل ناراً بكثير من النفخ والدموع، وامتزاج الدخان بخصلات شعرها المتعرقة.

وبعد لملمة الثياب توضع في لقن (وعاء معدني واسع، واللقن كلمة تركية على ما أعتقد) مملوء بالماء الساخن، وتبدأ مهمة الدلك والفرك، والدعك وسنِّ الصابون الأخضر. ذلك كان غسيلاً حقيقياً، وليس مشهداً عابرا في فيديو كليب. بعض الأمهات كن يستعن على شقاء الغسيل وثقله، بالغناء والتراويد، بصوت يدغدغ شغاف القلب.

الأمهات المحظوظات بأولاد مسالمين، سيقطفن الثياب الجافة عن الحبل المشدود سريعاً. أما اللواتي سُرقت شاروطهن، فعليهن إعادة الغسيل مرة أخرى، بعد أن تراخت الثياب ومسها تراب الأرض. فتحية لأمهاتنا الطيبات اللواتي تعبنا لنا، واللواتي ما أن يأتي مغيب الشمس، حتى يسامحن جنوننا، ويتناسين سرقة الشاروط.

تداعت على قلبي ذكريات الغسيل وشواريطه المسروقه، بعدما سمعنا بأن قيمة قضية غسيل الأموال التي يُتهم فيها واحد من كبار شخصياتنا تعادل ثلاثين مليون دينار. عندها تمنيت لو أن معي شاروطاً طويلاً أذب به العفاريت التي تلبستني، وأسقطتني خرقة في مهب التراب. مش معقول؟.

فكم حبلٍ احتاج هذا الغسيل الثقيل؟، وكم شاروطٍ أسنده؟، وكم يدٍ خفية ساعدت في غسله؟، وكم سورٍ ارتفع لتغطيته عن العيون؟. وكم لوح صابون استهلك؟، وكم لقن غسيل، وكم ملقط؟. وكم شمس حقيقة سنحتاج ليتضح لنا الأمر، ونتبين القيمة الفعلية لذلك التلوث الكبير الذي دب فينا، وأفسد حياتنا؟.

وهل كانت أموالنا وتعبنا وسخة كي تكون مطمحاً لكل غاسل وهامل؟، لماذا احتاجت لغسيل يبخرها، ويحولها أرصدة في بنوك الغرب وقصور وسيارات فارهة بأرقام لافتة. ربما نحن بحاجة لغسالة تدور مليون دورة في الدقيقة، كي نتخلص من هؤلاء الذين علقوا بدمنا، ولعقوه.

 

بقلم رمزي الغزوي


المراجع

addustour.com

التصانيف

صحافة   رمزي الغزوي   جريدة الدستور   العلوم الاجتماعية