لأكثر من نصف قرن، والعرب؛ سياسيون ومن يعرفون بالنخب المثقفة، يُقحمون مصطلح الطائفية في الحياة السياسية العربية. وهو إقحام له مواقيته التي تفسر مبررات استخدامه.
فالعرب الذين ظهرت كياناتهم السياسية، بعد استثناء مصر، عقب الحرب العالمية الأولى، دخلوا مرحلة التأسيس وما لها من مخاضات عسيرة وسلبية، لاسيما في ظل التكالب الدولي على المنطقة بسبب إسرائيل وبسبب النفط. ولأن العرب كغيرهم من شعوب الأرض منقسمون شعوبا وقبائل، فإن فكرة الشرذمة بدت يسيرة على من يريد لمصالحه أن تتحقق، سواء كان من داخل المنطقة أو من خارجها. من هنا كان الظهور التدريجي لمصطلح الطائفية بشكل واضح في لبنان في الأربعينيات من القرن الماضي. و"الغريب العجيب" أن من روّج له كانت فرنسا التي قامت فيها ثورة نادت بالمساواة، في وقت كان العرب في ظل الدولة العثمانية. ومن لبنان التي أُقرت فيها الطائفية دستوريا، أخذت الطائفية طريقها إلى المشهد السياسي العربي المهلهل.
الحديث عن الطائفية في مطلع العام 2013 فيه رسالتان مهمتان يجدر التذكير بهما: الأولى، تتعلق بالمعرفة، وهي أن من عدم الحكمة اعتبار الطائفية، بمعنى الاختلاف في الدين، مبررا للحرب والصراع، لاسيما بين العرب؛ فقد كانت بلاد العرب مهداً للديانات الثلات، كما أن العرب في تجربة حضارية عمرها أكثر من 14 قرنا، قدموا أمثلة في التعايش الحقيقي المؤسس على احترام الاختلاف. كذلك، فإن العرب ليسوا الأمة الوحيدة المتعددة طائفيا ومذهبيا، فلماذا يصبح هذا الأمر معولا للهدم فيها وليس لبقية الأمم؟
الجواب يبدو في الرسالة الثانية، وهي أن الطائفية التي تنتشر في المشهد العربي مصنعة كما تُصنع المنتوجات، لكن إنتاجها يبدو أكثر خطرا من ذي قبل على البيئة السياسية العربية. والخطورة تكمن في التصنيع ومَن وراءه. فقد ثبت بمراجعة سريعة للعقود الخمسة الماضية من تاريخ العرب، أن الطائفية صُنعت بمبررين: الأول، داخلي يتعلق بالمحافظة على الوضع الموجود أو لإحداث وضع جديد. والثاني، خارجي بهدف تبرير تغيير يراد له أن يخدم مصالح أطراف خارجية. هذان الأمران يفسران هذا التصنيع المتزايد للطائفية على مستوى السياسيين والمثقفين، ومحاولة تسريب الأمر إلى الأجيال القادمة لإدامة الاحتقان والاختلاف.
إن العرب الذين تنقلوا عبر صحارى، واستقروا وبنوا، ينبغي عليهم تذكر أن الطائفية مفهوم طارئ على ثقافتهم السياسية، وأنها مثلها مثل الكم الهائل من المفاهيم، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني.. إلخ، أنتجت في مناخات مختلفة. فكما يجب الحذر من الديمقراطية عند البعض، فمن الأدعى الحذر كل الحذر من الطائفية؛ إنها منتج يراد للعرب أن يستهلكوه كما يفعلون في التكنولوجيا والوجبات السريعة، لكن تلك لها أخطارها، فهل يتم التنبه إليها؟
إن العرب دخلوا مرحلة أشبه ما تكون بتلك التي دخلتها أوروبا الشرقية بعد العام 1989؛ لها إرهاصاتها السياسية والاجتماعية، ولها ما سيكون لها من تقسيمات، ومحاولة قوى خارجية وإقليمية إضعاف التجربة أو تغيير مسارات ما حدث منذ أواخر العام 2010. لكن هذا يجب أن يواجه بقبوله كردة فعل لتلك القوى التي تهددت مصالحها، والمهم في هذا السياق التنبه إلى مرحلة التصنيع التي تتم لمفاهيم تخدم تغيير مسار الأحداث، وجعل التغيير يفقد مصداقيته في عيون قطاعات واسعة من أولئك الراغبين في التغيير. فهل يُسمح لذلك التصنيع بأن يحقق أهدافه؟
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محجوب الزويري جريدة الغد