لا تنعكس المشاركة السنية الفاعلة - في الانتخابات البرلمانية الأخيرة - على تركيبة البرلمان القادم وإعادة تشكيل التحالفات السياسية الكبرى داخله وخارجه فقط. بل تطال طبيعة الدور العام للسنة في المرحلة القادمة الذي يشهد تحولا استراتيجيا كبيرا. فهناك إعادة اعتبار للجانب السياسي لدى السنة، بعدما تغلب جانب المقاومة المسلحة على سلوكهم في المرحلة السابقة.
 ويبدو واضحا أن هناك عملية مراجعة حقيقية وإعادة ترتيب للأوراق داخل المجتمع السني، وهو ما ظهر في جملة من المؤشرات التي تحدد اتجاهات العلاقة بين أضلاع قوى المثلت السني: الأحزاب السياسية (بالأخص الإسلامية)، هيئة العلماء المسلمين، والمقاومة المسلحة. إذ تظهر ملامح معادلة جديدة تقوم على توزيع الأدوار بين الأضلاع الثلاثة من ناحية. وتأكيد عملي - من ناحية أخرى- في توجه السنة إلى خيار استراتيجي واضح وهو "الطريق المزدوج" (الجمع بين الخيار السلمي وبين الجهاد المسلح).
 وفي الوقت الذي خاضت فيه جبهة التوافق العراقية (الممثلة للأحزاب السنية الكبرى وفي مقدمتها الحزب الإسلامي ومؤتمر أهل العراق) الانتخابات، وحققت وفقا للنتائج الأولية اكتساحا كبيرا في المحافظات السنية. فإن هيئة العلماء المسلمين لم تشارك، لكنها في المقابل لم تأخذ موقفا سلبيا من القوى المشاركة. والأهم من ذلك هو تحديد الهيئة لدورها بصيغة واضحة لا لبس فيها - كما جاء في بيانها حول الانتخابات أو تصريحات د. عبد السلام الكبييسي-، ويتمثل المعلم الرئيس لهذا الدور بأن الهيئة لن تتحول إلى حزب سياسي ينافس على السلطة، وستبقى بمثابة القيادة الروحية التي تقود النضال السلمي ضد الاحتلال، وتعبر عن الضمير العام للشعب العراقي المسلم في مواجهة الاحتلال وفي التأكيد على الوحدة الوطنية ورفض الاقتتال المذهبي ومخططات التجزئة والحرب الأهلية.
 إحدى أبرز الظواهر في الانتخابات الأخيرة تكمن في إعلان التيار العام من المقاومة المسلحة (السنية) وقف العمليات، وإتاحة الفرصة للسنة للإدلاء بأصواتهم مما يساهم في التأثير على مخرجات العملية السياسية من ناحية. ويعبر -من ناحية أخرى- عن تحول استراتيجي وحيوي كبير على طبيعة المقاومة المسلحة ودورها، ويمثل - كذلك- مقدمة لضبط عمليات المقاومة وترشيدها في الاتجاه الذي يخدم الأهداف السياسية. الأمر الذي قد يؤدي لاحقا إلى وضع ميثاق شرف للمقاومة العراقية يبتعد بها عن العمليات الدموية والعدمية التي تشوه صورة الجهاد، وتضر بالمشروع السياسي والوطني للسنة العرب.
 في هذا السياق، فإن الحديث عن أهمية "المشروع السياسي السني" لا يعني تخطئة المقاومة المسلحة ابتداء أو النيل من مشروعيتها. فالمقاومة هي خيار شرعي وتاريخي- وطني، لكن هناك ملاحظات حول "الحالة العراقية" عامة وحول مسار المقاومة السابق بوجه خاص. أولى هذه الملاحظات غياب الإجماع الوطني حول المقاومة العراقية، ما جعلها ذات طابع سني- طائفي، وهو ما لا يتحمل مسؤوليته السنة، بل الظروف التاريخية السابقة التي أدت إلى تشويه البنية الاجتماعية العراقية، وأدت إلى تغلب العواطف الطائفية والعرقية على الجوامع الوطنية والدينية على السواء لدى الطوائف والأعراق المختلفة. كما أن وجود العديد من التيارات والاتجاهات المتباينة في مشاربها الفكرية وأهدافها السياسية داخل خلايا المقاومة أدى إلى حالة من الضبابية وفقدان البوصلة، وخروج كثير من عمليات المقاومة وخطاباتها عن الاتجاه الصحيح. ما أثر حتى على الصورة الأخلاقية والوطنية للمقاومة واختلاط الحابل بالنابل.
بالتأكيد تمثل المقاومة المسلحة جوابا على تحدي الاحتلال وسؤال الدين والكرامة الوطنية. لكن هناك تحد وتهديد لمستقبل العراق أخطر من الاحتلال وهو تحدي العلاقة بين العراقيين من مختلف الطوائف والأعراق. لذلك لا بد من السير على طريق مزدوج يسمح بالموازنة بين مواجهة تحدي الاحتلال (بالمقاومة المسلحة) وبين بناء العلاقة الداخلية وتجنب الحرب الداخلية والفوضى، وهو ما يتم من خلال التوافق الوطني العام على طبيعة النظام السياسي القادم وفي بناء تقاليد لحوار وطني داخلي يسمح بإدارة رشيدة للحالة السياسية والدينية تكفل حماية التعددية والتنوع في إطار الوحدة.
في المحصلة، هناك معالم نضج حقيقي في ممارسة السنة وخطابهم السياسي، وإرهاصات لترشيد المقاومة المسلحة. وهي الملاحظة التي نقرأها في أولوياتهم القادمة. إذ وردت هذه الأولويات على لسان الزعيم السني عدنان الدليمي الذي تعهد بأن السنة سيتحالفون مع القوى التي تؤمن بوحدة العراق، والعمل على وقف عمليات الفوضى والعنف، وبناء إدارة رشيدة للدولة ومؤسساتها، وهي أولويات تمثل إرهاصات لمرحلة سياسية جديدة يقف على أعتابها السنة العراقيون.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد