أسوأ أنواع التجارة هي تجارة السوق السوداء التي تمارس في ساحات يفترض أن تمارس غير التجارة. وأكثر انواع الميكافيللية استغراقا في سلبيات هذا النهج هي تلك التي تمارس تحت لافتات تشتم الانتهازية والتجارة بالمبادئ. فمن يقدم نفسه مؤمنا بنهج ميكافيللي "الغاية تبرر الوسيلة" هو الإنسان الواضح الذي نتوقع خطواته، ونعلم محددات موقفه، وماذا يريد، وكيف يصل الى ما يريد، لكن المشكلة والخطر الحقيقي يأتي ممن يقدم نفسه عنوانا للقيم وحارسا للخير.
وعندما جاء ميكافيللي بنهجه الذي يجعل كل الوسائل متاحة، حتى وان كانت غير شرعية، للوصول الى الأهداف، فإنما أراد أن يصنع مدرسة واضحة، ولو كانت رديئة، بحيث تعلم من حولك في عالم السياسة أو التجارة أو مجمل مناحي الحياة ان "لا يحرِّم حراما ولا يحللِّ حلالا"، ولهذا فإنك تتوقع خطواته، هذا ان لم تكن مؤمنا بهذا النهج وتمارسه.
حين وضع الراحل ميكافيللي كتابه الأخير لم يكن يتخيل ان تطويراً وتحديثا سيجري على فكرته، وان البعض سيغطي نفسه بغطاء مثالي، ويقدم نفسه رسولاً للخير فيما هو يُخفي في داخله شيئا آخر، ويقدم للعالم الإنقاذ من كل الشرور لكنه لا يملك أن ينقذ نفسه من الشيطان.
المشكلة الحقيقية ليست في الكبار وأصحاب الكفاءات والقدرات، فهؤلاء يمكنهم خوض معاركهم او معظمها بشرف، لكن العملة ذات الوجهين، والغطاء الملائكي الذي يُخفي تحته أحد فروع الشيطان الرجيم، في الصغار الذين تعجزهم قدراتهم، فيلجؤون الى كل انواع الميكافيللية أو اسوئها، عبر ابتسامات ومكائد وتحريض ومؤامرات على من يرون فيهم مشاريع نجاح، ويحترفون التسلل واكتساب القوة عبر تفريق الآخرين، او عبر استثمار القضايا المقدسة والأفكار العظيمة والشعارات التي تسلب عواطف المجموع. إذ ترى لدى هؤلاء الصغار تمثيل التواضع والحديث بلغتين، فيبادرونك بالمديح والثناء، لكنهم بعد فترة وجيزة لا يتورعون عن التآمر عليك والتحريض ضدك، واتهامك بكل ما هو رديء! والكارثة انهم يشعرون أن هذا من حقهم، او ربما يحاولون خداع أنفسهم ومن حولهم بأن ما يقومون به هو خدمة لوطن او دين او عروبة او انسانية.
ميكافيللي ليس رمز الشر الأهم في صناعة الانتهازية، بل هو اراد لهذه المدرسة ان تصبح نهج حياة لانصاره، أي أن يكون "اللعب على المكشوف"، فالجميع غاياتهم تبرر وسائلهم. لكن جذر الشر هو في الخداع الذي يقدم اصحابه رُسل خير، او رموز افكار لإنصاف الأمة، عبر عروبة او دين او وطنية، فيما تكون المصلحة الذاتية أولاً، وزيادة مساحة الشلة أو المجموعة أولا، ولا "يرمش له جفن" اذا ما انتهك في طريقه اعراض بعضهم وسمعتهم وحقوقهم؛ فالمهم ابتسامة النصر التي لا تختلف عن ابتسامة طفل شرير يعبث بأغراض اقرانه، تعبيرا عن مخزون حقد أو بذرة شر في داخله.
قد تحرز هذه المدرسة المراوغة انتصارات في أعمالها، سواء أكانت في السياسة أو التجارة أو الحياة، لكن الثمن الحقيقي الذي يتم دفعه هو من مصداقية تلك المؤسسة التي يعمل فيها المراوغون أو الميكافيلليون الجدد، إذ تفقد مضمونها وصورتها، ولو بعد حين، سواء أكان هذا الميكافيللي الجديد صاحب بقالة صغيرة، أو يزعم أنه يحمل مشروع الأمة بغض النظر عن هويتها.
تعلم الإنجليزية في خمسة أيام كتاب ظهر قديما، لكننا نحتاج إلى تعلم الميكافيللية الجديدة، والى مرشد ودليل للتعامل معها بوضوح وجرأة وفهمها؛ فقد نصل الى مرحلة يقتنع هؤلاء أنهم اصبحوا معلومين، وأن طبقات الكريما الفكرية والعاطفية والسياسية لم تعد قادرة على تغيير الحقائق.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة