لا يخفى على أحد حجم الرّكود الاقتصادي الذي يعاني منه التّجار في الضّفة الغربية، فالواقع يتحدّث عن كساد غير مسبوق، وهبوط في نسبة المبيعات لدرجات وأرقام كبيرة، تثير تساؤلات عن الدّراسات الدّولية التي تتحدث عن نمو اقتصادي في الضّفة الغربية.
وبجولة سريعة على عيّنات مختلفة من التّجار، يجمع هؤلاء جميعاً على الوصف السّلبي للواقع الاقتصادي، كما لا يخفي هؤلاء استياءهم من طريقة الادارة الاقتصادية في واقع سياسي هش يغلب عليه صفة الانتظار والمساعدات الخارجية والرواتب، وتركّز هذه المساعدات على قطاعات غير منتجة، في حين تستنزف غالبية ميزانية المساعدات في النّفقات الإدارية للشركات الأجنبية التي تكون اليد العليا التي تقطف العطاآت ثم تحيل الفتات لشركات إنشائية فلسطينية محدودة تحظى بالقبول من أطراف محلية وإقليمية ودولية.
بعض التّجار يقول أن السياسات الإقراضية التي تتبعها البنوك في الأراضي الفلسطينية لها دور كبير في تعميق الأزمة الاقتصادية وحالة الرّكود، ويعتبرون أنّ الانتعاش المؤقت أول الشهر عند قبض الرواتب من قبل الموظفين توقف أيضاً، لأنّ هذه البنوك تقرض الموظّفين لشراء السّيارات والكماليات وغيرها، وأصبح راتب الموظّفين يذهب لصناديق البنوك قبل أن يصل إلى جيوب الموظّفين.
بعض الخبراء يرى أنّ السياسات الضّريبية - وخاصّة الجديدة منها - تحتاج لإعادة تقييم وترشيد، فهي وإن حسّنت الإيرادات للخزينة العامة، إلا أنّها آذت قطاعات واسعة من محدودي الدّخل من الفلسطينيين، كما أنّ هذه السّياسات بحاجة لإعادة تموضع وتوزيع، وتخفيض الضّرائب عن المواد والخدمات الرّئيسية لعامّة النّاس، وزيادتها على مواد أخرى كالدّخان على سبيل المثال، فهذه قضية مؤرّقة لقطاعات كبيرة متضررة من النّاس، وبينما بعضهم يئنّ بصمت فإن البعض الآخر بدأ بالصّراخ من كثرة الالتزامات والدّفعات الشّهرية التي تفرغ الجيب قبل أن يمتلىء.
أمّا قطاع الصنّاع والحرفيين الفلسطينيين فلهم رأي في هذا الواقع الصّعب، فالصّناعة الفلسطينية في حال من التّراجع منذ وقت طويل، ويعود السّبب إلى إغراق السّوق الفلسطينية ببضائع مختلفة سيّئة الجودة ورخيصة الثّمن، وهذا الإغراق أدّى لانهيار قطاعات صناعية ومهنية كثيرة، وأدّى لتسريح عشرات الآلاف من العمّال وتحوّلهم إلى عاطلين عن العمل أو عمّال في المستوطنات الاسرائيلية، فقطاعات الأحذية والملابس وحتى قطاعات الحدادة والنّجارة والألمنيوم والخزف والزّجاج …الخ، كلها تأثرت سلباً بما يجري حالياً، فالكثير من المواطنين يسافرون للصين -على سبيل المثال- ويحضرون شبابيك وأبواب وأثاث بيوتهم كاملاً من هناك، ويترك الصّناع والحرفيين الفلسطينيين بلا عمل. ولذلك يرى عدد من الاقتصاديين الفلسطينيين أنّ إحياء هذه القطاعات الانتاجية الفلسطينية يحتاج لسياسات رسمية ترفع الجمارك على المستوردات الخارجية التي لها بديل محلّي بحيث يصبح تصنيعها محليّاً أوفر من استيرادها من الخارج، ويقولون بأنّه لا يوجد انعكاسات سلبية لهذه السياسة على الاقتصاد والسياسة في الضّفة الغربية، فعلى صعيد الاقتصاد فالضّفة عملياً مستورد وليست مصدّر، وبالتالي لن تتعرض لسياسات عقابية مماثلة من الصّين، إضافة إلى انّ النّشاط الاقتصادي مع الصّين يتعدّى القطاعات المشار إليها أعلاه التي يجب رفع الجمارك عليها، وفوق ذلك كله فالصّين سياسياً تتجه للإنحياز بشكل كامل لجانب الاحتلال الاسرائيلي في ابتلاع المقدّسات والأرض الفلسطينية، والذي تجلّى في رفض الصّين التوقيع على الوثيقة العربية التي تقول بالقدس الشّرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، لذلك لا أثمان سياسية لهذه السّياسة الحمائية.
سياسة المقاطعة والحماية للاقتصاد الفلسطيني مهمّة، بل بالغة الأهمية، ولذلك لاقت سياسة مقاطعة منتوجات المستوطنات تجاوباً واسعاً من قبل فئات مهمّة من الشّعب الفلسطيني، ولكن لا بدّ من خطوات أخرى، فالمنتوجات الاستيطانية ليست وحدها التي يجب أن تقاطع، بل المنتوجات الخاصة بالمستوطنة الكبرى التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، والكثير من هذه المنتوجات لها بديل وطني، ولا بد من النّظر لهذا الموضوع بشكل أوسع وأفضل.
كما أنّ سياسة المقاطعة هذه تحتاج لخطوات هامّة واستراتيجية في استحداث مشاريع إنمائية في المناطق الفلسطينية ترتكز على المشاريع الصّغيرة المدعومة حكومياً وأهلياً وعائلياً وفردياً، كما أنّ مقاطعة العمل في المستوطنات يحتاج لقوانين تحمي العمال والعائلات الفلسطينية من غول ارتفاع الأسعار وغول الاستغلال الذي يتّبعه بعض أصحاب المصانع الفلسطينية، فالعامل الذي يتقاضى رواتب في المستوطنة الاسرائيلية تفوق الرواتب التي تمنح لهم في المصانع الفلسطينية بعشرات المرات، كيف سيترك العمل في المستوطنة؟ فبعض أصحاب المصانع الفلسطينية يدفع رواتب للعمّال تساوي نظام العمل بالسّخرة، وتجد صاحب المصنع يخرج متشدّقاً بانّ مصنعه دعامة رئيسية في الاقتصاد الوطني، فتحتار حينها بين الضّحك أو البكاء أو الإنفجار من الغضب.
إنّ التّجارب الأخيرة للفلسطينيين مع المساعدات والمانحين يجب ان تدفعهم دفعاً لتغيير سياسات وعادات اقتصادية واستهلاكية بشكل جوهري، فلا بد من العمل على صياغة استراتيجية اقتصادية تسعى لتعميق وتوسيع وحماية الانتاجية المحلية بطريقة تدفع لتلبية احتياجات الفلسطينيين وتنمية واستصلاح أراضيهم، وحماية حرفهم وصناعاتهم، وبالتالي تخفيف الاعتماد على المساعدات الخارجية، خاصة في ظل تلويح الاتحاد الأوروبي بتقليصها.
لا شك بأنّ طريق الخروج من الواقع الصّعب يحتاج للصبر واتباع سياسات حكيمة، وترابط اجتماعي ونبذ للطمع والجشع والفردية، بل لا بد من الانطلاق بمبادرات فردية وشعبية ورسمية تخلق واقعاً مأمولاً من الحفاظ على الذّات وتحصينها وتقويتها في وجه كافّة المؤمرات التي تستهدف اقتلاع الفلسطيني من أرضه عبر تضييق سبل الحياة عليه.
المراجع
pulpit.alwatanvoice.com
التصانيف
أدب ملاحم شعرية مجتمع