كنا حُفاة، ندحرجُ دولاباً معدنياً، في الوعر، وكان يخشانا الشوك، وطرية كانت تغدو الأرضُ تحت دبيبنا السريع، وإذا ما ابتلانا حجر بازغ؛ فأدمى أرجلنا المحجَّلةِ بالتراب والتعب؛ كان يأخذنا الرقص، فنترك الدولاب ونرقص، ثم نرقص، لنتغلب على ألمنا ووجعنا، وكأننا نرسم أغنيةً بالحركات، تُنسينا جرحاً فاغراً، ودماً فواراً. وبعدها نلحق دولاباً ما زال يدور
.
والمعلم الذي كان يتعبه عدُّ العِصيُ، التي تئز على صفحات أيادينا الصغيرة، فنعتصرُها بسرعة تحت آباطنا، وكأننا نمتص نسغ الألم منها، ثم نأخذ في الرقص: نرقص ثم نرقص، ونشرع أيادينا ثانيةً لغضب المعلم، الذي يريدنا أن نبكي، لكنَّ الرقص يبرد أوجاعنا، ويأخذ بثأرنا، فينهار المعلم على عتبة عنادنا الراقص | .
والديك السمين، الذي أنهكنا في القبض عليه، بين قبيلة الدجاجات المذعورات، كي تعدَّ الخالة وليمةً مُشتاة، كان يذبحه الجارُ القاسي، بعد أن يسنَّ سكينه اللامعة. الديك كان يتطاير دماً ويأخذهُ بالرقص: يرقص ويرقص، ويطير غير بعيدٍ نحو(الخمِّ)؛ يطفئ ذعر الزوجات المُرمَّلات، كان يتمرغ بالتراب، وكأنه بالرقص يختم حياةً عامرة بالزهو، وينتصر على دمه المسفوح.
والسحالي الصغيرة، التي كنا نصطادها بشق الأنفس، بعد أن نراقِصُها بين جحور الأرض وأشواك البلان، حتى ترتمي بين أصابعنا. هذه السحالي كنا ننصب لها مقصلة على عجل من أحجار الصوان المُسيّفة، ثم نتنادى بالمجرمين، الذين نكرههم: مجرماً مجرماً، والسحالي هي التي تنوب عنهم، ثم نلقمهم لفم الموت قصعاً بالمقصلة: الرأس يطير بعيداً، ويبقى الذيلُ المسكين راقصاً، يرقص ثم يرقص، وكأنه يسحب ألما عظيماً، طالما بتنا نعيشه الآن: فهل نرقص لنمتص بعض وجعنا؟ | .
من يراقب الناس يجدْ أن لهم طرقاً ومذاهب في مواجهة الاوجاع والهموم، أي لكل واحد منا طريقته الأثيرة في مواجهة الألم، وظروف الحياة ومنغصاتها، تصير له بصمة تختلف عن غيره من العالمين. فهناك من يتظاهر أو يعتصم أو يكتب شعرا أو مقالا، وهناك من يغني، مستفيداً من قاعدة (إن كثرت همومك غنّ لها)، وهناك من يعمد إلى الصمت وكظم الغيظ، فيحترق احتراقاً داخلياً، قبل أن ينفث دخان التخفيف والتنفيس. وهناك من يرقص ليمتص ألمه. فهل ينفعنا هذا؟. وأي رقصة ستناسب وجعنا الممدود؟ | | .
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة رمزي الغزوي جريدة الدستور
|