خلت مجموعة الخطابات التي ألقاها الرئيس الأميركي من التزام واشنطن “بنشر الديمقراطية في العالم العربي” كأنما عادت الولايات المتحدة إلى سياستها القديمة بتقديم الأمن والاستقرار على ترسيخ أنظمة ديمقراطية في المنطقة.
غياب الدعوة إلى الديمقراطية في العالم العربي من تصريحات بوش لم تكن مفاجئة في ضوء الردود الأميركية على فوز حماس والإخوان المسلمين في مصر بالانتخابات البرلمانية، فالصحافة الاميركية بدأت تحذر من وصول الأصوليين إلى الحكم إذا استمرت واشنطن “بدفعها لانتخابات حرة في الدول العربية والإسلامية”.
صحيح أن نتائج الانتخابات أثرت على الأقل في الخطاب السياسي الأميركي لكن التردد الظاهر هو نتيجة بالأساس لطبيعة البرنامج الاميركي لنشر الديمقراطية.
عودة إلى التفكير الذي ساد في الولايات المتحدة بعد 11 ايلول؛ نجد أن منطق توسيع رقعة الديمقراطية في المنطقة كان يهدف إلى تقليص مد حركات الإسلام السياسي، وليس إلى دعم مؤسسات ديمقراطية وتمثيلية في العالم العربي.
وهناك فرق بين الهدفين؛ ففيما قد يؤدي ترسيخ الحريات الديمقراطية إلى ظهور تيارات علمانية من خلال تعزيز التعددية السياسية فإن السياسة التي اتبعتها واشنطن وحلفاؤها أدت إلى نتيجة عكسية: بأنها شجعت، عمليا، القمع والقوانين الاستثنائية لضرب الحركات الإسلامية.
استعملت واشنطن أداتين في حملتها لما تسميه نشر الديمقراطية، الأولى تمويل الحكومات والمنظمات غير الحكومية، لتوسيع دور المرأة وتغيير مناهج التعليم وخلق منابر إعلام جديدة، وأما الثانية فكانت الضغط على الحكومات لتمثيل سياسات الحرب على الإرهاب من خلال إجراءات تعسفية وقوانين استثنائية تمثل خرقا لحقوق الإنسان بل ولدساتير البلاد المعنية.
أما التمويل وحتى إن كان جزءا منه يدعم مشاريع تدريبية فإن هدفه هو بالإساس إنشاء مجتمع مدني غير مسيَّس وغير منخرط في القضايا القومية والإسلامية مثل فلسطين والعراق وحتى القضايا المحلية التي تتطلب نضالا واشتباكا حقيقيا مع الواقع كغلاء المعيشة ومواجهة الفساد والمطالبة الجادة والفاعلة في الإصلاح السياسي الحقيقي.
التركيز على المرأة، وإن كان ايجابيا، فجزء كبير منه يهدف إلى إضعاف تأثير الحركات الإسلامية وتطويعها، ولا أقصد بهذه الملاحظة تسويغ مواقف متعصبة ضد المرأة أو تبرير رفض بعض القوى الأصولية المتشددة تشريعات تضمن حقوق المرأة، لكن هي محاولة لفهم التحرك الأميركي في دعمه للمشاريع النسوية، وليس إدانة لمبدأ تنمية صورة المرأة وحالتها في سياق التنمية الاجتماعية.
الأداة الثانية التي استخدمتها الولايات المتحدة، ولا تزال، غير ديمقراطية أصلاً، فعندما تتكلم واشنطن عن دعم الديمقراطية في العالم العربي فهي تتكلم عن التأسيس لقوى تفكر مثلها وتدعم سياساتها في المنطقة بعد أن استنتجت من أحداث 11/9 بأن الأنظمة الحليفة لها فشلت في اقتلاع جذور الارهاب من مجتمعاتها.
من جهة أخرى تطلب الولايات المتحدة من حلفائها العرب “وأد الارهاب” في مصدره. لذلك “فإنها وحتى في اوج ديمقراطيتها في العالم العربي اتبعت سياسات قمعية وطالبت حلفاءها بالمنطقة بإثبات صداقتهم لها من خلال سن قوانين وتنفيذ اجراءات “ضد الارهاب” في بلادها.
النتيجة كانت عكسية بكل المقاييس؛ الحركات المعادية لاميركا اصبحت اكثر شعبية، فيما توسع تنظيم القاعدة في عملياته وزادت نسبة المعارضة للسياسة الاميركية في المنطقة.
هل تعيد واشنطن حساباتها، وهل يعني ذلك عودتها عن مشاريعها؟ أتكتفي بدعم الانظمة؟ أم أنّها ستحاول استقطاب الحركة الاسلامية؟
الثابت أن واشنطن لا تأخذ العبرة من الخطأ دائما، فهي لا تدرس فشل سياساتها في المنطقة، وإنما تركز سبل تنفيذها. فالمراجعة، اذا كان هناك مراجعة، لن تشمل العراق او فلسطين او حتى سياساتها الإملائية مع الدول الأخرى.
الأهم من ذلك العبرة التي نستخلصها، نحن، ففي التسعينيات وضع الكثير من المثقفين أملهم في “الليبرالية الجديدة” وقبلوا شعار أن الليبرالية السياسية هي توأم الليبرالية الاقتصادية، ولم يؤد ذلك إلاّ إلى اتساع الفجوة الطبقية والاقتصادية في الدول النامية بما في ذلك العالم العربي.
في السنوات الأخيرة بدأ الاعتماد مجددا على السياسات الأميركية ودعوتها إلى نشر الديمقراطية، ورأينا ما رأينا، فواشنطن ليست الحل.
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة مقالات جريدة الغد