علاقة المؤسسات بالمواطن ليست سياسية او اقتصادية او اجتماعية فقط، بل اصل العلاقة خاص بالقيم، وهذه المنظومة من القيم والمعايير هي احد اهم اشكال القياس لقوة العلاقة بين المواطن من جهة والحكومات او المجالس النيابية او الاحزاب او الإعلام من جهة اخرى، وعندما تتحدث بعض استطلاعات الرأي عن فجوة في هذه العلاقة فإنّ لهذا أسبابا في أصلها وجوهرها.
واستعير هنا عبارات من مداخلة العين عبدالكريم الكباريتي في مناقشة المجلس لقانون المركز الوطني لحقوق الانسان حيث يقول: "ان قضايا القيم لا تحارب بمعايير مزدوجة وإلا ضاعت المعركة في أول لحظة بضياع المصداقية"، وهي عبارة جوهرية؛ فعندما تتصدى حكومة او مجلس أعيان او نواب او تنظيم لمعالجة قضايا قيمية مثل الفساد او النزاهة او الحريات، فإن المعركة ضد السيئ من هذه القيم تكون خاسرة اذا تم التعامل معها بمعايير مزدوجة لسبب واضح أن المعايير المزدوجة تعني ضياع مصداقية الجهة التي تمارس الحرب او تقول انها تحارب القيم السيئة، ولهذا فعندما تعلن حكومة حرباً على الفساد والمحسوبية، فإنّ اهم متطلبات نجاح المعركة هي المصداقية، التي تعني ايضاً معياراً واحداً يطبق على الجميع. فالفساد واحد ومرفوض سواء مارسه الكبير او الصغير، والعقاب يقع على كل الاطراف، وهذا الامر يعيدنا الى تعامل السلطة التشريعية مع قانون اشهار الذمة المالية الذي لا نعده تحولا تاريخياً لمحاربة الفساد بل مبادرة حسن نوايا فقط. لكن مجلس الاعيان اشترط نظاما خاصا لأعضاء مجلس الامة، وهذا الامر له انصاره استناداً الى فتوى دستورية، وعندهم وجهة نظر محل احترام، لكن الأمر يحتاج احياناً الى تجاوز تفسير النصوص حرفيا أو التعامل معها خارج سياق مقاصدها. وأعود الى مداخلة الكباريتي في مناقشة هذا القانون "وهذا القانون يستهدف اولئك.. وليس منا من يخجل له وما له وما عليه فيختبئ وراء دستورية اجرائية لقطع الطريق على مشروعية القضية المبدئية وشرعية الالتزام بها".
وهذا المنطق ليس خاصا بقانون اشهار الذمة المالية او مثيله من القوانين، بل مرتبط بكل مسارات الاصلاح المرتبطة بأذهان الناس بالقيم او نقيضها. والامر ليس مرتبطاً بالحكومات فقط، بل يمتد ايضاً الى مؤسسات المجتمع المدني؛ فأي حزب او قوة سياسية تنادي بالمثل، وتتحدث عن المدينة الفاضلة والحريات والديمقراطية ومحاربة الفساد وغيرها من القيم تفقد قيمتها وتخسر معركتها عندما تكون عاجزة عن امتلاك معيار واحد لما تطالب به وتتحدث عنه وبين واقعها الداخلي وممارساتها والأسس التي تنظم علاقاتها الداخلية، وحتى لو لم يكتشف الناس هذا التناقض في مرحلة فإن الزمن كفيل بكشف المستور.
ولعل احدى مشكلات بعض مجالس النواب مع الناس تعود إلى المصداقية، فالمواطن يعتقد ان المسافة بين الشعارات الانتخابية والممارسة النيابية كبيرة لدى فئات من النواب، وهنالك قناعة لدى أوساط شعبية ان فئات من النواب تتحول أولوياتهم عند دخولهم المجلس الى امتيازاتهم الخاصة ومصالحهم سواء عبر التشريعات او الممارسات او غيرها من أشكال استعمال الموقع.
وبعض طبقات السياسيين تعاني ايضا من خسارة لمعركتها مع القيم بسبب المصداقية. فالناس ترى تبدلاً في المواقع والأحكام لدى هذه الطبقات بتغير أماكنها في السلطة وخارجها، فهم مبررون ومدافعون عن السياسات الرسمية عندما يكونون فيها، وناقدون متشائمون ساخطون وهم خارجها، وسبب المعايير المزدوجة ليس سوء الاحوال او ايجابياتها، بل تشابه الظروف، لكن تغير الأحكام والمواقف مع ثبات الظروف وتغير مواقفهم في الحكومات او خارجها.
أينما ذهبنا سنجد أنّ الحكم واحد: فالفشل في معارك القيم يعود للمعايير المزدوجة الكفيلة بهدر المصداقية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   سميح المعايطة