يعيبوننا، وهم محقون، أننا لا نقرأ. نردد باستمرار أمة (اقرأ لا تقرأ). هذه هي المقدمة الأولى للبلاء الذي نعيش. والمقدمة الثانية، والتي قد تزيد على تلك خطراً أن كثيراً منا لا يقرأ إلا ما يعجبه، ويؤيد قناعاته، ويدعم توجهاته وأفكاره، ويقيم الدليل والبرهان على صحة ما يؤمن به.
في منطق البحث العلمي أنك إذا أردت أن تتأكد من صحة قناعاتك فعليك أن تبحث عمن ينقضها عليك. وأن تعرضها على من يخالفك فيها، وتستمع إليه بإصغاء، وتتبع أقواله عَوْداً عَوْداً، وعُوْداً عُوْداً. وإن كنت تخاف على قناعة من نقد أو تمحيص فأنت غير حقيق منها. الحقيقة الحقيقة لا يخاف صاحبها من نقد. والحقيقة الحقيقة يزيدها الكير توهجاً، والمشحذ تألقاً. يضبطك أحدهم وأنت تقرأ لمخالف لك في الرأي أو التوجه فيقول لك: كيف تصبر على قراءة هذا (ال..) ثم يطلق قذيفة من عيار الهراء، أو البهتان، أو الزيف، أو الكلام الفارغ، هذا أخف العيار وأهونه..
إنه، بصورة ما، يحتج عليك أن تقف أمام النافذة. وأن تطل على العالم لترى ما وراء غرفتك من سهل ووادٍ وجبل ونهر يتلوى ليروي عقولاً ويمتع أبصاراً. إنه الإصرار على التمترس أمام المرآة، أو الالتصاق بضفة الغدير. التخندق وراء صفحات ما يعجب ويسر حالة مسيطرة على القليل الذي يقرأ في عالمنا، ليكون كل ما نتعلمه معاد مردد،
وكل ما عدت فيه يكون بالعود أحمد
الدعوة إلى هجرة القواقع ليست دعوة إلى الخروج بمعنى ( الفسوق ) لا اللغوي ولا الشرعي؛ بل هي دعوة إلى الخروج للبحث عن الجديد والجميل. للبحث عن الحق أو عن كل ما ينتمي إلى الحق، مهما اختلفت مصادره ومظاهره وألوانه. وهي دعوة للتراجع عن موقف المتربص على لسان خطيب أو قلم كاتب للبحث عن السقطة والزلة، في منهج لتتبع العورة وإظهار الذات بالإشارة إلى الخلل والعيب. في كل جمال الطبيعة في فصل الربيع، لا يلحظ صاحبنا في حمانا غير كومة الوقود الريفي بجانب موقد كثير الرماد!!
الموقف النفسي المتسامي هو الذي يجعل ( عدسة ) البصر أو البصيرة تتفرد بالتقاط الفريد والبديع من حقائق الوجود وثمرات عقول البشر.
وليس أحد فوق أن يستعين ولا أحدٌ دون أن يعين. هذه عبارة كان يكثر من تردادها الشيوخ في مجالس التعليم. ومهما بلغت من الفهم والثقافة ففي بحار المعرفة أنت على شاطئ. ومن ظن أنه قد علم فقد جهل.
والهجرة من القوقعة تعني أن يهجر الإنسان حب الذات والاستعلاء على الناس. و( الكبر بطر الحق وغمط الناس). لنتذكر أن القرآن الكريم كتاب الله العلوي خاطب أمة أمية. يعتقد بعض التياهين أن مجاري العقول المتواضعة لا تستوعب فيوضات فكرهم الدفاق!!
وفي مجتمعنا المنهك بكثير من الأمراض ينضم الاستبداد الثقافي إلى أضمومة الشر فتسود أحاديث التكفير من بعض وأحاديث التنفير من كثير. الاستبداد الثقافي ليس أقل خطرا من الاستبداد السياسي إن لم يكن أشد خطرا وأنكى. وأخطر ما فيه قول قائلهم: ليس الحق إلا ما أعرف.
وكل التحديات الجسام المفروضة على أمتنا لم تخرج إنسانا في عالمنا من قوقعته. بل أكاد أقول إن هذه التحديات جعلت أصحاب القواقع أكثر حرصا على قواقعهم، وأكثر شكا وخوفا من كل ( من) و( وما) هو خارجها. وسادت ثقافة ( النافذة التي تأتيك منها الريح سدها واستريح ).
لا أتحدث هنا عن قواقع عرقية أو دينية أو مذهبية أو طائفية فقط، بل قد يكون أمر هذه القواقع أيسر وأسهل من القواقع الفكرية والثقافية. لأن التحرر الفكري الثقافي هو الجسر الأول لكسر القواقع الأخرى التي يتحصن فيها المترددون والشكاكون والخائفون.
حالة من الاستعلاء تتكلس اليوم على بعض المثقفين العرب فيظنون قواقعهم الضيقة أبراجا عاجية فيتفننون في ازدراء الناس. وفي منهجهم يكون للوافد كل الوافد التبجيل والتمجيد، ولكل ما كان إسلامياً أو عربياً أو وطنياً الازدراء والتحقير. أما منهج: اجلس فاستمع، أو اقرأ وفكر، فإن أعجبك كلام قبلته، أو لم يعجبك رددته، هو بعض خلق الأولين. ورفض الكتاب من عنوانه، والفكرة لاسم صاحبها منهج لا يزال يستولي على عقول الممسوسين.
وفريق آخر يحجر الواسع، ويضيّق الدائرة، ويقعد عن السير في الأرض، والنظر في آفاق الوجود، يحتم على نفسه: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو شيوخنا وإن كان زمانهم غير زماننا ومكانهم غير مكاننا.
قالت أعرابية غَرَّة لابنها وقد سمعته يتلو قوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ..)، يا بُني انظر هل تجد فيه بعيراً لنا ضل في الجاهلية؟ قال الولد الحليم برفق البنوة خافضة الجناح: بل أجد فيه ـ يا أماه ـ وعداً حسناً ووعيداً شديداً.
بعض مشكلتنا اليوم أن أمثال تلك البدوية البسيطة قد كثروا في مجتمعاتنا، وأن الأولاد البررة أصبحوا أندر من الكبريت الأحمر، كما كانوا يقولون. الخروج من قواقع الاستعلاء أو بأبسط المتطلبات تنظيفها من عفن التراكمات التي تزكم الأنوف وتنفر منها النفوس، هي أول الطريق إلى عالم يطيب فيه اللقاء.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع