حمى الوطن داءٌ فريد غريب لا يعي وجعه إلا من به اكتوى، مرضاه ككل المرضى إذا ما أصابتهم الحمى دكّت عظامهم، وأشعلت أرواحهم، وأذابت بعض عقولهم فيفقدون الكثير وينمحي من ذاكرتهم الكثير إلا هو فأرواحهم به معلقة، وهم ككل العاشقين المتيمين- في ساعات انصباب اللوعة والهوى على وعيهم- به يهلوسون.
وحماه هذه أشد من أي حمى؛ فالمحموم تُعالجه وتُطفئ حر قلبه الماء، وتُجدي به المسكنات نفعاً، أما حُمَّانا فلا جدوى معها، قد يُبردها شربة ماءٍ مهربة عبر الحدود أو حتى بعض غبار تلك الأرض... ولكنَّ فيح تلك النار المنبعثة من الصدور لا ينطفئ إلا للحظةٍ من زمن، ولا يلبث أن يعود أشدَّ اشتعالاً مما كان.
حمى الوطن ليست كحمى المتنبي فهي ملازمة لا تفارق، تشعبت حنايا القلب وانزرعت في مرابع الروح، دائمة المكوث  لا يزعجها نور نهارٍ، ولا تخيفها ظلمة ليل...
وهي ليست كحمى الأطفال التي قد تودي بحياة بعضهم أو تؤثر على أدمغتهم وخلاياهم العصبية فتؤذي بعض حواسهم، ولربما فقَدَ بعضهم السمع أو البصر، إن حمَّانا تلغي الإحساس من كل شيء إلا من الوطن؛ فهي تربط الروح بحبلٍ غليظٍ من دمٍ وانتماء، حبلٍ أشدّ من كل حبال الأرض متانةً؛ إذ كلما ابتعد الواحد منا عن حدود الوطن شدته من روحه بلا رحمة جاعلةً إياه معلقاً ما بين حياة وموت.
والغريبون المغتربون المطرودون أو الهاربون في بقاع الأرض المعلقون على مشانق الدنيا يترددون على حياض الحياة فلا يُروى ظمأهم، ويَرِدون ضفاف الموت فلا يرجع الواحد منهم إلا بسكراته وآلامه تسري في كل الأعصاب، وحبل الدم والانتماء لا زال مشدوداً يزيد تلك الآلام آلاماً ومعه تزيد تلك الحمى اشتعالاً.
لا يفكرون إلا به ولا يجمعون إلا للعيش فيه، يرقوْن بأنفسهم ليفخر بهم، يختنقون ليتنفس، لا يسعهم إلا أحضانه، لا تدفئهم إلا شمسه ولا يرويهم سوى ماؤه، ملأ عليهم فكرهم وشاركهم لحظاتهم، كأنه ولد فيهم ومنهم وما ولدوا فيه.
واللاجئون فرعٌ من هؤلاء لا زال في تنامٍ وازدياد، فمنذ اثنتان وستون سنة وهم يتقلبون في حمى قلوبهم، يشتاقون لهدير البحر الذي أودعوه أسرارهم وأحلامهم، يشتاقون لنسيم الفجر المختلط بعطر الأرض التي منحتهم الحياة والأمان، يحلمون بظل زيتونة ضاربة في عمق الأرض أو تينة تُساقط عليهم الشهد في الصباحات الندية. تحملوا وظلوا يورثون أبناءهم أحلامهم وآمالهم عبر أوراقٍ أنهكها الزمن وقطعٍ معدنية اتخذت شكل مفاتيح غليظة وكأنها ستفتح في عمق الأرض أبواب مغائر الكنوز الخفية...
أما تلك الحمى فلا زالت ماضيةً في نفوس الشرفاء لا ترحمهم، سَرَت في نفوسٍ غضة -لا زالت تبحث عن زهرة الحياة- كأشد ما تكون الحمى ففعلت فعلها وأشعلت نيرانها بصمت... وسكنت منهم كل مكان، هؤلاء كانوا يحلمون بالوطن الإنسان كي يسلمونه قلوبهم ويزرعونها بين حناياه فتورق وتزهر ومعه تزدان حياتهم وتمتلئ خيراً وحباً، لم يشعروا بعطشهم إلا لذلك الوطن الآدمي الغريب، فقلوبهم من نبع الوطن الأرض في ارتواء، فلما جفت سواقيه سكنت الحمى عظامهم وهم لمَّا يذوقوا طعم الفرحة بالوطن الإنسان فذبلت زهورهم وانكمشت الفرحة في صدورهم.
كثيرون هم الذين استغنوا بالوطن الإنسان عن الوطن المكان ولم يأبهوا؛ فعاشوا مشرذمين على حدود الأرض ترفضهم كل الدنيا، مهددين بالطرد في كل حين، غرباء في أعمالهم وبيوتهم وحتى في قبورهم، أنجبوا خليطاً غير متجانسٍ من الأفكار والقيم فاقداً للهوية والانتماء استغنوا بالوطن الإنسان عن الوطن المكان فظلت الحمى راقدة على أعتباهم تقتنص لحظة وهنٍ تطيح بقلوبهم، زارتهم الحمى في خريف أعمارهم مستهزئةً ضاربةً أرواحهم بسوطها فماتوا وهم محمومين لم يُبرِد حرهم شيء، لم يرِثوا ولم يوَرِثوا إلا ضياعاً في متاهات الدنيا.
أوطان الناس حيث تميل قلوبهم وقلوبنا مشدودة نحو وطننا تهدينا إليه أنوار الدماء المنسكبة في أرجائه وتنير لنا الطريق من حيث لا ندري، فحمَّانا هناك تتلاشى وظمؤنا يروى ونزهر ويزدهر.
 

المراجع

thaqafa.org

التصانيف

أدب  مجتمع