يناقش كامرون براون، مساعد مدير مركز غلوريا الإسرائيلي، في ورقته "ما مدى حتمية المستقبل الإسلامي؟"، إشكالية عدم قدرة الإسلاميين على تحقيق أي انتصار سياسي كامل والإمساك بالسلطة في دول عربية بعد مرور قرابة ربع قرن على الثورة الإيرانية 1979، رغم أنّ توقعات كثيرة كانت تنتظر الثورة الإسلامية التالية التي لم تأت بعد.
في سياق بحثه عن الجواب يستعرض براون التطورات السياسية وإستراتيجيات كل من النظم والإسلاميين في الصراع على السلطة، إذ لم تكن السنوات السابقة هادئة، بل شهدت محاولات متعددة من الإسلاميين، إلا أن أغلبها باء بالفشل، كما حدث في حماة السورية 1982 والجزائر 1992 ومصر في التسعينيات والسعودية مؤخراً 2003.
الأنظمة العربية استفادت كثيراً من تجربة عدم الاستقرار التي مرّت بها المنطقة خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، وكذلك من الثورة الإيرانية، وعملت على إغلاق الطرق أمام الحركات الإسلامية في الوصول إلى السلطة، باستخدام أدوات القمع والتعذيب والحصار والمنع أو باحتواء الإسلاميين في لعبة سياسية محدودة مدروسة، يترافق ذلك مع تأكيد عدد من الحكام والقيادات العربية على الرمزية والشرعية الإسلامية لسحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين.
في المقابل، تمكن الإسلاميون من تحقيق انتصارات جزئية لكنها، في الجوهر، لا تمثل انقلاباً كبيراً في تاريخ المنطقة، كما حصل مع انقلاب الخرطوم 1989، عندما نجح تحالف البشير والإسلاميين في الوصول إلى الحكم، وكذلك الأمر مع طالبان (أفغانستان) وأخيراً حماس في فلسطين، إلا أنها عانت من تقاسم السلطة مع الرئيس محمود عبّاس.
يضع "براون" يده على ملاحظة شديدة الأهمية؛ فصحيح أنّ الإسلاميين فشلوا إلى الآن في تحقيق أهدافهم السياسية، إلا أنهم استطاعوا كسب حرب "القلوب والعقول" والسيطرة على الشارع العربي ووراثة المد اليساري والقومي، ما يطرح سؤالاً مستقبلياً جوهرياً: إلى أي مدى ستتمكن النظم العربية من الصمود في وجه المد الإسلامي وممانعته؟..
الإشكاليات والتساؤلات السابقة تؤدي بـ"براون" إلى الاقتراب من إستراتيجيات الإسلاميين في الوصول إلى السلطة، والتي يختزلها في أربعة: الانقلابات العسكرية، الإرهاب، الحروب الأهلية أو الثورات وأخيراً الديمقراطية.
فيما يتعلّق بالانقلابات؛ حاولت العديد من الجماعات الإسلامية الاعتماد على هذه المنهجية. وباستثناء الحالة السودانية 1989 فشلت المحاولات الأخرى، إذ عمد الحكام العرب إلى تنظيف الجيوش من العناصر المشتبه بها من خلال تقوية الاستخبارات العسكرية واستخلاص العناصر الموالية الموثوق بها في المراتب العليا، سواء ممن تتقاطع مصالحهم مع الحاكم أو ينتمون إلى عشيرته أو عرقه. كما عمد الحكام إلى ضرب وحدة الجيش وتقسيمه وتفكيك الصلات بين وحداته المختلفة منعاً لقيام حالة من التواطؤ.
ربما تمكنت مجموعات إسلامية من اختراق الجيوش، كما حصل في حادثة مقتل السادات 1981، لكن اغتيال الرئيس لا يعني بالضرورة قدرة هذه المجموعات أن تحل محله. ويصل "براون" إلى أنّ الانقلابات لا تمثل الإستراتيجية المناسبة لتوقع وصول الإسلاميين في ظل الشروط الحالية.
الإستراتيجية الثانية: "الإرهاب"؛ وقد زاد اعتماد مجموعات إسلامية على هذه الإستراتيجية في السنوات الأخيرة. إلا أن الإرهاب أقل قدرة من الانقلاب على تحقيق الأهداف السياسية؛ فقتل الناس لا يعني الوصول إلى السلطة.
وبينما يرى خبراء أن هدف مجموعات إسلامية من الأعمال "الإرهابية"، هو ضرب اقتصاد الدول والعمل على انهياره لإحداث حالة من "الفوضى"، إلا أن "براون" يرى، محقاً، أنّ الأعمال الإرهابية ساعدت النظم العربية وقوّتها في مواجهة الإسلاميين، وأعطتها مشروعية شعبية لمواجهة هذه المجموعات، والمثال الناصع على ذلك يتمثل بحادثة الأقصر 1997 في مصر، إذ سحبت أي دعم شعبي لجماعة الجهاد داخل مصر.
ربما الحالة الوحيدة التي تعطي مشروعية شعبية لهذه العمليات هي استهداف مصالح أميركية وإسرائيلية إلاّ أنّ معاداة الناس للولايات المتحدة وإسرائيل لا تعني استعدادهم للخضوع لحكم إسلامي. فحزب الله امتلك تأييداً شعبياً كبيراً في مواجهة إسرائيل، لكنه بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، لم يعد يحتفظ سوى بتأييد الطائفة الشيعية في السياسة اللبنانية، في حين تطالب القوى السياسية الأخرى بنزع سلاحه.
الإستراتيجية الثالثة، هي الحرب الأهلية أو الثورة. فباستثناء الحالتين الإيرانية والأفغانية، فشل الإسلاميون بالثورة على النظم العربية، كما حصل في سورية والجزائر، والسبب الرئيس في ذلك أنّ النظم العربية هي التي تمتلك السلاح والقوة العسكرية والتدريب على النقيض من القوى الإسلامية.
فقط شرطان، يرى "براون"، إذا توافرا يسمحان للإسلاميين بالوصول إلى السلطة عن طريق الثورة، الأول ضعف النظام وتدهور قدراته المختلفة والثاني وجود تأييد شعبي كبير وعارم يقف وراء الإسلاميين.
الإستراتيجية الرابعة هي الديمقراطية. فبعد إخفاق الإسلاميين بالوصول إلى السلطة من خلال العنف والعمل المسلّح زاد توجه العديد من الحركات الإسلامية إلى الطريق الديمقراطي. وقد أظهرت المؤشرات الأخيرة أنّ الحركات الإسلامية تحظى بنفوذ شعبي كبير وقدرة على تحقيق انتصارات سياسية واضحة، كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة في فلسطين ومصر واليمن والأردن والكويت وغيرها.
الأسباب الرئيسة التي تفسر فوز الإسلاميين في الانتخابات تتمثّل بفشل النظم العربية الحالية في الإجابة على أسئلة التنمية والمشكلات الاقتصادية والسياسية والهزيمة العسكرية المدوية أمام الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن السبب الرئيس والأوضح هو فساد النظم، والحالات الواضحة التي لعب فيها الفساد دوراً كبيراً لصالح الإسلاميين هي تركيا (فوز العدالة والتنمية) وفلسطين (حماس).
في المقابل يسعى الإسلاميون إلى تأكيد قدرتهم على مواجهة الفساد وتشكيل بديل أفضل من الواقع السياسي الحالي إلى بناء شبكة من المؤسسات الاجتماعية (الصحة والتعليم والخدمات) تساعد الناس وتقدم رسالة إلى أداء أفضل من الأداء الرسمي.
إلا أن طريق الإسلاميين الديمقراطي يواجه عقبات رئيسة، أبرزها أن سماح النظم العربية لهم بالمشاركة السياسية ليس مفتوحاً بل مقيدٌا بشروط وبحدود كبيرة، ما يحول بينهم وبين امتلاك قوة سياسية حقيقية ذات تأثير، ويجعلهم يدورون في حلقة مفرغة يستنفدون طاقتهم فيها، كما أنّ النظم العربية تستثمر موقف هذه الحركات من السياسة الأميركية للتلويح دوما بالخطر الإسلامي في مواجهة الدعوات الغربية للديمقراطية.
"براون" يرى أنّ المشكلة الأهم التي تواجه الإسلاميين هي، في الحقيقة، أنّ المعارضة سهلة ليس لها استحقاق كالسلطة. فالحركات الإسلامية تتقن فن المعارضة لكنها لا تمتلك أجوبة السلطة، والطريقة المثلى لاختبار قدرة الإسلاميين هي "تجريبهم" في السلطة، فإمّا يفشلون وإما يضطرون إلى عقد صفقات ومقايضة مبادئهم بالواقع واستحقاقاته.
دراسة "براون" ممتعة، تثير الفكر، وإن كانت لا تحمل قدراً استشرافياً مقنعا يجيب على أسئلة المستقبل الملحة حول قدرة الإسلاميين في الوصول إلى السلطة، في ضوء تقارير أمنية أميركية وغربية تتوقع أن يشهد عام 2015 قيام نظم إسلامية.
على أي حال يبقى السؤال والنقاش حول المستقبل الإسلامي قائماً، وإن كان براون لم يأتِ على ذكر أحد الأسباب الرئيسة التي كانت تحول دوماً دون وصول إسلاميين إلى السلطة، وهي الصفقة التاريخية بين النظم الحالية والغرب على حساب الإسلاميين. كما أنه تجاهل أن "العنف الإسلامي"، في جزء كبير منه، مثل دوما خياراً استثنائيا من قبل الإسلاميين، ردا على عنف أكبر وأخطر، هو عنف بعض الأنظمة والحكومات.
m.aburumman@alghad.jo
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد