لعل مراجعة بنية العلاقة بين الدولة والناس تكشف وجود خلل يعبر عنه احيانا بضعف الثقة، واحيانا اخرى بالتواصل، واحيانا تفتقد مؤسسات الدولة السياسية إلى الارتباط بالناس، ويفتقد المواطن للاحساس بوجودها في حياته، ودائما لا تكون العلاقة بين المواطن والمؤسسة السياسية مباشرة، لأنّ هذا صعب من الناحية الفنية؛ لكن قنوات وقيادات شعبية وسياسية كفيلة بالدفاع عن الدولة، وليس الحكومات، وحمل هموم الناس وقضاياهم ومواقفهم، وفي كل الدول هنالك المختار او العمدة والوجهاء والنواب والاعيان ورجالات الدولة السابقون، فالقيادة الشعبية لا يتم اختراعها، بل استغلال حضور البعض وثقة الناس بهم ومصداقيتهم.
مشكلتنا ان هذه الفئات تآكل دورها خلال العقود الماضية، وكثير من القيادات تم استنزافها في الشكليات والاحتفالات، وتحول دورهم من تمثيل مصالح الناس وتوجهاتهم إلى الحضور في القاعات والاستماع للخطابات الرسمية، وتمت صياغة اولوياتهم بحيث اصبح اهتمامهم مرتبطا بمصالح شخصية وفردية أو حتى جهوية، واستنزفتهم الحكومات لتحولهم الى جزء من كادرها، يقدمون الخدمات لها مقابل اعطائهم بعض الوجاهة كقدرتهم على اخراج موقوف بكفالة..الخ.
حتى الاعيان، فهؤلاء من وزراء ورؤساء حكومات سابقين وقادة عسكريين متقاعدين وغيرهم، يمثلون عشائر ومحافظات وعائلات، الا ان أكثرهم يتحول بفعل العزلة والغربة عن اهله وعشيرته ومحافظته الى تمثيل نفسه فقط, ويتكدسون في المناطق الفاخرة في عمان، وهم يعتقدون ان وجودهم في هذا الموقع تكريم لهم وليس دورا سياسيا.
أمّا النواب فهم العمود الفقري لتمثيل الناس، لكن مشكلة معظم النواب انهم يعانون من صورة سلبية عند الناس سواء كانت الاسباب حقيقية او ظالمة، ولعل النواب هم الاكثر تمثيلا للناس حتى الان. لكن هذا لا يعني ان التمثيل يحقق اغراضه، ومع التشويه الذي لحق بالعمل النيابي تحولت العلاقة الى خدمات يفرح من يحصل عليها ويغضب الكثيرون ممن لم تصلهم، وهذه العلاقة غير السليمة تدفع النواب، وبخاصة ممن لا يحبون تكرار التجربة، الى الهجرة الى مصالحهم في العاصمة، والابتعاد شيئا فشيئا عن الناس.
قديما كان استاذ المدرسة وشيخ الجامع والوجيه او شيخ العشيرة يحمل صفة تمثيلية لها مكانة ومصداقية لدى الناس، لكن هذا الوضع تغير بحكم تغير اساليب الحياة، في المقابل فإنّ الحاجة لقيادات شعبية تمثل الناس ويستمعون لها، ويأخذون برأيها لم تتغير، بل ان التطورات في العلاقة بين المؤسسة السياسية الرسمية والناس تزيد الحاجة لوجود هذه القيادات. واذا كان اصحاب القرار معنيين بتعزيز اوصال العلاقة بشكل دائم ومستمر فلا بد من اعادة الاعتبار لفكرة القيادات الشعبية ذات المصداقية والثقة، قيادات ليس دورها المجادلة والنفاق، بل تمثيل الناس وحمل قضاياهم، وفي المقابل يمثلون الدولة، وليس الحكومة، ويمارسون حالة التواصل المستمر واليومي بين اصحاب القرار والناس.
الزيارات التي يقوم بها المسؤولون ضرورية، لكنها جزء من التواصل، اما الجسور فتصنعها القيادات الشعبية، ولعل دورا اكبر يجب ان يمارسه النواب والاعيان. فعادة الحكومات أنّها تحب نوابا يقفون معها، لكنها تغفل عن دورهم في تمثيل الناس وتمثيل الدولة، والاعيان اصبحوا نخبة سياسية وليسوا تعبيرا عن مؤسسة تخدم الحكم، واسس الاختيار تراعي التمثيل الجغرافي الشكلي، وليس التمثيل الحقيقي.
القيادات الشعبية جزء من بنية الحكم، لا يجوز اختزالها او صياغتها بشكل غير سليم او التغاضي عن عيوبها، فالامر ليس ترفا، بل ضرورة من ضرورات ادارة الدولة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة