أحد الأهداف الرئيسة التي تسعى إليها إسرائيل - بضرب البنية التحتية وتشريد الملايين وقتل الناس وترويعهم وضرب كل معاني الحياة الإنسانية- في عدوانها الحالي على لبنان يتمثل بترسيخ قاعدة جديدة في العلاقة بينها وبين المحيط العربي مضمونها أنها قوة إقليمية كبرى مرهوبة الجانب، وأن كلفة أية عملية ضد مصالحها وأمنها ستكون كبيرة ليس على الجهة المنفّذة فحسب، بل على المجتمع الذي يحتضن هذه الجهة ويوفر لها العمق الاستراتيجي أو الملاذ الآمن.
ما تريد إسرائيل، وأميركا، ترسيخه أنّ قواعد اللعبة الإقليمية قد تغيرت، بعد الأحداث المفصلية التي شهدتها المنطقة -احتلال بغداد، عملية اغتيال الحريري وتداعياتها وانهيار ما تبقى من هياكل النظام الرسمي العربي- وعلى العرب أن يقتنعوا بذلك، وألا يقفوا في مواجهة أهداف إسرائيل الاستراتيجية.
هذه "القناعة الاستراتيجية"، التي تريد إسرائيل ترسيخها، لها بعد ثقافي ونفسي لا يمكن تجاهله، بل ثمة دراسات وتوصيات من بعض مراكز الدراسات الصهيونية، في واشنطن، تؤكد على أهمية تكييف الثقافة العربية مع المعطيات الاستراتيجية الجديدة وقمع ثقافة "التمرد" لدى الشعوب العربية. وفقاً لهذا المنطق؛ ليس مهماً أن يقتنع العرب أن الولايات المتحدة أو إسرائيل "قوة محبوبة"، وليس مطلوباً أن تعمل أميركا على استرضاء الشعوب العربية، بل المهم ترسيخ قناعة عربيّة مجتمعية بأنّ أميركا "قوة مدمّرة" لا يمكن الوقوف في وجهها.
نظرية"تطويع الثقافة العربية" نخبويا وشعبيا تتبناها بعض روافد مدرسة الاستشراق الجديد في الغرب، ذات الروابط الصهيونية، وقد نادوا بتطبيقها على العراق، ما انعكس على سلوك الجيش الأميركي وعملية التعبئة النفسية لجنوده وتعاملهم مع المجتمع العراقي، سواء في معتقل أبو غريب أو العمليات التي تستهدف المدنيين أو انتهاك حرمات الناس وحقوقهم.
مشكلة نظرية "تطويع الثقافة" أنها تتصادم، بامتياز، مع طبيعة "النفسية العربية" وموقفها الحاسم من الاحتلال والهيمنة. فعلى النقيض من دعاوى أصحاب هذه النظرية فإنّ السياسات الأميركية والإسرائيلية تساهم، باطراد مستمر، بتنمية مناخ خيبة الأمل والسخط والغضب، أي البيئة النموذجية لصعود الإسلام السياسي، الذي يمثل القوة الرئيسة الرافضة للهيمنة الأميركية اليوم، وبشكل خاص في صيغته المسلّحة والراديكالية.
في المقابل فإنّ أحد المخرجات الرئيسة لسياسات الهيمنة والاحتلال، والحروب التي تشن في هذا السياق، يتمثل بإضعاف النظم الحليفة للولايات المتحدة، واستنزاف ما تبقى من مشروعيتها أمام مجتمعاتها، بل والتأكيد على قناعة شعبية أخرى وهي انتهاء صلاحية النظام الرسمي العربي، الذي لا يبدو أن له بديلا اليوم إلا حركات الإسلام السياسي، سواء استطاعت هذه الحركات الوصول عن طريق العملية الديمقراطية أم العمل المسلح أو حتى في حالات الفوضى والانقسام كما هو الحال اليوم في العراق وفلسطين.
الحضارات والثقافات تختلف. وإذا كان الصرب استسلموا لمخططات أميركا وحلف الناتو، بعد ضربات جوية مكثفة(إذ يدعو أميركيون وإسرائيليون إلى تطبيق سيناريو كوسوفا على الحرب الحالية في لبنان)، وإذا كانت اليابان استسلمت بعد الحرب العالمية الثانية وحوّلت جهدها ونشاطها إلى الاقتصاد، وكذلك الحال في ألمانيا الغربية؛ فإنّ الميراث الثقافي والحضاري والتكوين النفسي للمجتمعات والشعوب العربية مختلف تماماَ فهي عصية على التطويع السياسي والتاريخي، وترفض منطق الاحتلال والهيمنة، بل يتصاعد تمردها بتصاعد سياسات الإكراه الخارجي.
الأمثلة على ما نقوله كثيرة ومتعددة، ولعل العراق نموذج مثالي على ذلك. فبعد حرب أميركا على أفغانستان كان تنظيم القاعدة يعاني من أحوال متردية في مصادر التأييد والدعم، ولم يكن له وجود فاعل وحقيقي يذكر، وكان أبو مصعب الزرقاوي هارباً من نار أفغانستان مع عدد قليل من الأنصار. لكن الحرب العراقية الأخيرة منحت القاعدة"فرصة ذهبية" للتجنيد والتعبئة والحركة، ووفد آلاف الشباب العربي إلى بغداد، الذين شاغلوا المشروع الأميركي إلى أن اكتسبت القاعدة جسداً عراقياً كاملاً. بل يجمع الباحثون والخبراء المتخصصون في تنظيمات القاعدة أنّها أصبحت بمثابة"الماركة المسجلة" لكل من يقاوم ويعارض السياسة الأميركية، في الوقت الذي تصل فيه نزعة معاداة هذه السياسة في المجتمعات العربية أقصى درجاتها اليوم.
صحيح أنّ نفوذ الإسلام السياسي الذي يتجذّر اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية، لم يستطع إنجاز تغيير سياسي نوعي، ولم يتمكن من الوصول إلى الحكم في أيٍّ من الدول العربية المعتبرة، إلاّ أنّ مؤشرات المستقبل توحي بإمكانية حقيقية في إحداث هذه الحركات انقلابا سياسيا تاريخيا، فهي الحركات الوحيدة الصاعدة شعبياً.
في العراق لا يمكن قراءة العلاقة السلمية بين الأميركيين والإسلام السياسي الشيعي والحزب الإسلامي السني إلاّ في سياق الهدنة الهشة المؤقتة، وفي أفغانستان عادت طالبان تسيطر على كثير من الأراضي الأفغانية بالتحالف مع حكمتيار وابن لادن، وفي الصومال تسيطر المحاكم الإسلامية، كما تتفرد حركات الإسلام السياسي في ملء الفراغ السياسي والمجتمعي في مختلف الدول العربية. لكن ما هو أخطر من هذا وذاك أن تتراكم حالة الغضب والإحباط المتصاعد، التي ترفد الإسلاميين بالدعم المجتمعي، لتحدث تحولاً سياسياً نوعياً في بعض الدول، سواء من خلال انقلابات أو ثورات.
إذ يبدو أنّ الإنجاز الحقيقي لسياسات التدمير والإرهاب والقتل الأميركية والإسرائيلية ليس تطويع الثقافة العربية وإخضاعها لمنطق القوة وسياساتها، كما يرى المستشرقون الجدد ومراكز الخبرة الصهيونية، بل على النقيض من ذلك فإن هذه السياسات تدفع إلى"تثوير الثقافة العربية" ودفعها إلى أقصى درجات المواجهة مع المشروع الأميركي والإسرائيلي.
في المحصلة؛ لن تؤدي الحرب الإسرائيلية- الأميركية اليوم على لبنان إلى عزل حزب الله وإسقاط حماس، وإن نجحت تكتيكياً في تحقيق أهدافها، فعلى المدى البعيد ستؤدي إلى تقوية هذه المنظمات. وإلاّ فإن البديل موجود لكنه ليس أميركيا أو ليبرالياً إنما نموذج آخر من"الصدريين" و"جيش الإسلام" (في غزة). بكلمة: ما يحدث اليوم هو سيادة وانتشار "الروح الكربلائية" في المجتمعات العربية!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد