بعنوان "النشاط الإسلامي والدمقرطة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" عقدت ندوة موسعة في العاصمة الهولندية، أمستردام، يوم الأربعاء 8 نوفمبر 2006، حضرها عدد غفير من الدبلوماسيين الغربيين والعرب والباحثين والمهتمين في أوروبا بحقل الحركات الإسلامية. الندوة سطّرت في مضمونها ومختلف الآراء المطروحة فيها ملامح رؤية أوروبية جديدة تجاه الحركات الإسلامية، تتجاوز تلك الصورة النمطية التي كانت تسم الحركات الإسلامية جميعها باللاعقلانية والتطرف والدوغمائية. الملفت بحق كان تعالي الأصوات من المشاركين والحضور بضرورة النقد الذاتي وإعادة النظر في السياسة الأوروبية، تجاه الحركات الإسلامية، إذ كانت تقوم سابقاً على دعم الحركات العلمانية والليبرالية فقط، لكن ثبت مع مرور الوقت أنها ضعيفة وغير قادرة على منافسة الإسلاميين.
الندوة جاءت تتويجاً لجهد كبير ومميز قدّمه "المجلس العلمي للسياسة الحكومية" في هولندا، من خلال تقرير مطول بعنوان "ديناميكية النشاط الإسلامي"، يرصد التطورات الهائلة التي أصابت النشاط الإسلامي خلال السنوات الأخيرة وأدت إلى بروز اتجاهات فكرية وحركية وقانوية تمتاز بقدر كبير من الانفتاح والاجتهاد والالتزام بروح الشريعة الإسلامية والاقتراب الكبير بالقبول بالديمقراطية والبراغماتية والمواطنة.
القيمة الحقيقية التي يريد التقرير ترسيخها لدى صانع القرار الهولندي بخاصة، والأوروبي بعامة، تتمثل بأنّ هنالك تنوعاً وتعددية داخل الفكر والحركات الإسلامية، وثمة شركاء إسلاميون يقدمون تفسيرات ورؤى متقدمة للإسلام وحيويته في العصر الحالي. في المحصلة يهدف التقرير إلى بناء منظور منهجي أوروبي جديد لفهم الحركات الإسلامية يتجاوز الصورة النمطية. ومن خلال استقراء مطول وتحليلي لتطور ديناميكية النشاط الإسلامي من خلال ثلاثة أبعاد: الفكر الإسلامي، الحركات الإسلامية، والقانون الإسلامي، يصل التقرير إلى نتائج جوهرية أهمها مطالبة الأوروبيين بإعادة الاعتبار للحركات الإسلامية والاعتراف بها والحوار معها، وعدم افتراض التصادم بينها وبين الديمقراطية مسبقاً، والقبول بها لاعباً مهماًَ في عملية الإصلاح السياسي والدمقرطة في العالم الإسلامي.
في الندوة كان لي مشاركة رئيسة بعنوان "الإصلاح السياسي في الأردن ودور الحركة الإسلامية"، الجزء الأخير من الورقة كان عن الدور الأوروبي المطلوب في الإصلاح السياسي، تناولتُ، في هذا السياق، محاور رئيسة منها؛ أهمية أن تضع أوروبا رؤية استراتيجية واضحة تتميز عن السياسة الأميركية الحالية المنحازة، التي أتت بالويل والأزمات على المنطقة، فهنالك فرصة سانحة لأوروبا ودور ممكن معتدل لها يمكن أن تؤديه في العراق وفي الموقف من أزمة البرنامج النووي الإيراني والصراع العربي- الإسرائيلي، كما أنّ تسهيل عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والتعامل مع حكومة العدالة والتنمية في اسطنبول هي خطوة سياسية ستساهم في بناء جسور حضارية بين الشرق والغرب، بحيث تؤدي تركيا دورا محوريا كقنظرة عبور حضاري وتواصل ثقافي. فعلى أوروبا أن تختار مع أي وجه للإسلام تريد أن تتعامل: مع أردوغان وعبدالله غول وطارق رمضان أم مع الوجه المتطرف!
بخصوص الحركات الإسلامية، فأوروبا بحاجة إلى كسر الجمود والمواقف المسبقة وفتح باب الحوار معها، ويمكن لأوروبا أن تساهم في دفع الإصلاح السياسي في المشرق العربي من خلال الضغط على الحكومات العربية باتجاه الإصلاح السياسي واحترام حقوق الإنسان، بعدما تخلت أميركا عن دعوتها للإصلاح السياسي، كما يمكن لأوروبا مساعدة الحركات الإسلامية على تطوير خطابها بالحوار معها ومع الأجيال الشابة فيها بدعوتهم لأوروبا ولزيارة مراكز الدراسات هناك واللقاء بالخبراء والسياسيين والأكاديميين وفتح آفاق جديدة لفهم أفضل من قبل الإسلاميين للغرب ولفهم أوروبي أفضل للحركات الإسلامية بدلاً من الاعتماد على صورة نمطية مشوهة بالغ في "شيطنتها" كل من الإعلام الغربي والحكومات العربية وممارسات وخطاب متطرفين إسلاميين يعانون من نزق في الرؤية الفكرية وفي فهم الشريعة الإسلامية.
أحد الأسئلة الجدلية، التي وجهها لي مسؤولون هولنديون؛ كيف يمكن تطبيق هذه الرؤية عملياً! فهؤلاء المسؤولون يعترفون بالتضارب بين مصالح أوروبا ورؤيتها الأمنية لمنطقة جنوب وشرق البحر المتوسط، التي تؤثر حيوياً على مصالح أوروبا وأمنها، وبين دواعي حقوق الإنسان والإصلاح السياسي في المنطقة، الجواب على ذلك هو القيام بعملية موازنة بين كلا الاعتبارين، مع عدم تأخير قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة إلى مرتبة متأخرة على الأجندة الأوروبية تجاه المنطقة. وإذا كانت، كما ذكر مسؤولون، الحكومات العربية تعتبر مراقبة قضية حقوق الإنسان تدخلاً في الشؤون المحلية فيمكن أن تقوم بهذا الدور مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والإعلام وجميعها تلعب دوراً كبيراً اليوم في الصراعات الداخلية العربية الراهنة.
لكن، في الوقت نفسه، على الأوروبين إدراك أن دعم الحكومات العريبة والوقوف ضد قوى التغيير الصاعدة، إن كان يكفل الأمن على المدى القريب، فهو تهديد أمني على المدى البعيد، إذ إن الأوضاع السياسية والاقتصادية غير الصحية في العالم العربي هي أحد العوامل الرئيسة في صناعة الغضب الإسلامي، الذي سيكون عامل عدم استقرار وتهديد للأوضاع الراهنة المأزومة وسيؤدي إلى ازدياد التوتر بين أوروبا والعالم الإسلامي من جهة، وينعكس على العلاقة مع الجالية الإسلامية في أوروبا من جهة أخرى. فإذا أرادت أوروبا حماية أمنها على المدى البعيد عليها أن تدفع باتجاه الإصلاح السياسي في المنطقة، حتى لو أتى بحركات إسلامية للسلطة، وعليها أن تقبل بأنّ الإصلاح في قوة دفعه الحقيقية وفي صيغته وقيمه ينبع من النسق الحضاري والاجتماعي العربي، ولا يجب بالضرورة أن يلبس الإصلاح ثوباً غربياً.
أثبتت هذه الندوة والتقرير الذي أصدره المجلس الهولندي أن هنالك اتجاها أوروبيا جديدا نحو الحركات الإسلامية، في مواجهة صعود نزعة معاداة الإسلام أو "الإسلام فوبيا"، لكن الفرق أن الاتجاهات الأوروبية الإيجابية لا يتم التركيز عليها إعلامياً. في المقابل على الحركات الإسلامية اليوم أن تنظر بجدية بالغة للتوجهات الأوروبية الجديدة وأن تبحث عن "الشريك الأوروبي" الذي يمكن أن يفهمها ويتواصل معها، ولكي تصل إلى هذه المرحلة على الحركات الإسلامية أن تعيد التفكير في الآخر وفي علاقتها بالغرب وأن تطور خطابها السياسي والفكري بدرجة أكبر من الجرأة والنقد الذاتي والدفع باتجاه العقلانية والواقعية.
من خلال رصد الأبحاث والمشاريع والأفكار الجديدة ليس فقط في أوروبا بل في أميركا أيضاً، ثمة تحولات وتطورات مثيرة، يمكن استثمارها لفتح آفاق جديدة في التفكير والحوار والضغط باتجاه الإصلاح السياسي، فهل الإسلاميون اليوم قادرون على قراءة هذه الموجة أم أن المياه ستمر من تحت أقدامهم!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد