بعيداً عن الدور الروحي والثقافي الرائد لهيئة العلماء المسلمين ولرئيسها الشيخ حارث الضاري، وهو شخصية وطنية مناضلة نظيفة، فإنّ الحوار الذي جرى بينه وبين كتاب وصحافيين في مركز الرأي للمعلومات والدراسات، يكشف عن "أزمة" في رؤيته السياسية وتصورات هيئة العلماء لخريطة طريق النجاة من الواقع العراقي الخطير.
لا اختلاف مع الشيخ الضاري على خطورة الاحتلال ووجوب مقاومته ورفضه، إذ لا يقبل أي إنسان سويّ أخلاقياً بأن يكون خاضعاً لجيش احتلال أجنبي، وألاّ يمتلك سيادته واستقلاله، إلاّ أنّ تصور الضاري يختزل الحالة العراقية في ثنائية "الاحتلال والمقاومة" متجاوزاً ثنائية أخطر وأكثر دماراً وهي الثنائية الطائفية "السنة والشيعة"، التي تدمّر اليوم النسيج الاجتماعي والثقافي والوطني، وتجعل من العراق جزراً طائفية وعرقية متحاربة.
المعضلة الخطيرة التي يقفز عنها الضاري هي أنّ ثنائية الاحتلال والمقاومة اشتبكت بالثنائية الطائفية بامتياز، ما يجعل من فرز المواقف على أساس العملية السياسية الجارية بمثابة المصطلح الحركي لتعزيز الطائفية السياسية وتفتيت العراق. فالقوى المسيطرة على العملية السياسية الجارية هي القوى الشيعية، بينما أغلب القوى السنية معارضة، ومشاركة الشيعة في هذه العملية ليس تأييداً للاحتلال، لكن لأنّ مصالحهم السياسية وسعيهم لدور أكبر في حكم العراق يتقاطعان مع العملية الحالية، كما أنّ جزءاً كبيراً من السنة يعارضون العملية السياسية لأنهم شعروا مع سقوط نظام صدام، على الرغم أنهم لم يكونوا في عهده أفضل حالاً من الطوائف والفئات الأخرى، بأنهم مستهدفون سياسيّاً وأنّ الاحتلال متحالف مع الشيعة ضدهم، فسعوا إلى قلب المعادلة السياسية من خلال المقاومة المسلّحة.
هذا لا ينفي تلك المشاعر الوطنية والدينية الصادقة لدى كثير من المقاومين السنة، لكن -في المقابل- صمت الشيعة على الاحتلال ليس لأنهم "غير وطنيين"، بل لأن الاحتلال يوفر لهم فرصة تاريخية للتخلص من مرحلة سابقة كانوا يشعرون فيها بالظلم، سواء كان هذا مبالغاً فيه أم لا، وإذا ما شعروا - لاحقاً- أنّ الاحتلال لا يخدم هذا الهدف فسرعان ما ينتفضون عليه وينقلبون إلى المقاومة المسلّحة.
ما سبق، لا يعني تسويغ العملية السياسية الحالية، وإنما محاولة لإدراك الواقع وتشابكه وتعقيداته. فالمقاومة المسلّحة يجب أن تكون بالتوازي مع حوار عقلاني مع الشيعة وصولاً إلى بناء قواسم مشتركة، وتعزيز الجوامع الوطنية والوحدة الدينية، ما يتطلب جهداً سياسياً وثقافياً هادئاً وفاعلاً. أمّا اشتراط الضاري أن يكون الشيعي الذي يتحالف معه معارضاً للعملية السياسية الجارية من حيث المبدأ، فهو بذلك يستثني أغلب القوى الشيعية الفاعلة والمؤثرة وينسف إمكانية الحوار من أساسها، بل ويتضمن ذلك خطاباً تخوينياً ليس فقط للشيعة المشاركين في هذه العملية، بل حتى للحزب الإسلامي وغيره من القوى السنية المشاركة.
عملياً، الشريك الشيعي الذي اختاره الضاري ووقف معه، سابقاً، هو جيش المهدي، لأنه أظهر خطاباً سياسياً ضد الاحتلال الأميركي، وكلنا يذكر كيف انبرت أقلام عربية بالإشادة بالصدر وعروبته (!) (وكأنّ الشيعة الآخرين ليسوا عرباً)، لكن سرعان ما انقلب الصدريون على مواقفهم السابقة وشاركوا في العملية السياسية. وأفراد ميليشيا المهدي هم من يقومون - اليوم- بعمليات التطهير الطائفي والاعتداء على مدنيين من السنة في عدة مدن. ما يعني أنّ الشرط الصحيح في الشريك الشيعي أو السني المطلوب ليس رفض العملية السياسية إنما الاتفاق على الحوار السياسي البنّاء ووحدة العراق وبناء نظام سياسي يقبل فيه الجميع، ويكون مقدمة لتشكيل هيئات ولجان تشرف على مناهج التعليم والتربية والإعلام وتعمل على اجتثاث روافد الفرقة والتجزئة والاستعداء وبناء تقاليد لاحترام الاختلاف والسلم الأهلي.
على الجانب الآخر؛ فإنّ الخطاب السياسي والفكري الصادر عن فصائل المقاومة المسلّحة فيه نزعة "سلفية" واضحة، ذات موقف سلبي من الشيعة عموماً. فهذا خطاب في جوهره معادٍ للاحتلال، ويحمل - في الوقت نفسه- مشروعا إقصائيا، فهل يقبل به الضاري؟! وإذا كان لا، كما أجاب الضاري نفسه، فالمطلوب أن يكون هناك نقد علني له.
في هذا السياق يمكن الحديث عن تنظيم القاعدة الذي يهدف إلى هزيمة المشروع الأميركي في العراق، لكنه يشعل بخطابه والعديد من عملياته الحرب الأهلية، ويقدم مبررات لخطاب التطرف على الجانب الشيعي، وإذا كان الضاري يعلن رفضه لخطاب القاعدة على استحياء في جلسات خاصة، فإنه يرفض إعلان ذلك على الملأ، إذ لا يريد خلق النزاعات والمشكلات بين القوى المقاومة للاحتلال، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة العراق والعلاقة بين القوى الرئيسة! ولعل هذا الموقف يضع خطاب الضاري على المحك أمام المشكلة التي تواجهه في بناء معادلة بين أولوية الموقف من الاحتلال الأميركي من جهة والحرص على الشراكة الوطنية والسلام الاجتماعي من جهة أخرى.
يؤكد الشيخ الضاري أنه لا يخشى من قيام حرب أهلية إذا انسحب الاحتلال من العراق، فكل القوى التي جاءت مع الاحتلال ستذهب معه (!) وستعمل القوى المناهضة له، فور خروجه، على تشكيل نظام سياسي جديد يتسع للجميع، وفي هذه الرؤية قراءة غير واقعية لدور القوى الإقليمية ولطبيعة المرحلة الحالية. صحيح أنّ نجاح المشروع الأميركي كان سيشكل مأزقاً للمنطقة، لكن فشله أيضاً سيخلق فراغاً وفوضى وسيؤدي إلى صراع إقليمي وحروب بالوكالات، والعراق بالتأكيد سيكون ساحة رئيسة لمواجهات إقليمية. أمّا دعم الدول العربية للضاري والسنة فلن يكون لإسقاط المشروع الأميركي، بل ضد النفوذ الإيراني، وهذا يصب في سياق المصلحة الأميركية، ما قد يؤدي في المحصلة إلى تغير جذري في المواقف الحالية.
رؤية الضاري السياسية، نظرياً، لا غبار عليها، وتنطلق من موقف وطني وإسلامي مشرّف، لكن المشكلة هي في الواقع الذي يخلق بتعقيداته ومشكلاته أسئلة مركبة ومرهقة!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد