قُبلة في منديل
قبل سنوات كان صندوق بريدي يعمر بالرسائل الآتية من كل جهات القلب. وكم كانت لهفتي تغالبني، وتجعلني، في بعض الأحيان، أفترش دكة إسمنتية صغيرة جوار مكتب البريد، لأفض كطفل عجول مغلف رسالة لا أطيق عليها صبراً. وكم ملأتني دموع، وكم هيجتني عبرات، وأنا أشم رسالة أستحضر مرسلها أمامي عبقا وطيبا، فأقرؤوها مرة إثر مرة.
تصلني مئات الرسائل عبر بريدي الإلكتروني في هذه الأيام، وعبر صفحتي على الفيسبوك أو هاتفي الجوال، ولكنها لا توقعني في ذلك الحنين، الذي كانت تصنعه الورقة، فقد كان لها نكهتة أخرى. الرسائل الورقية المحملة بأنفاس ولمسات وبصمات مرسليها، وهمساتهم الدافئة حين يلصقون عليها الطابع الصغير، هذه الرسائل ليست إلا شحنة كهربائية لذيذة، عارمة تلذعني، وتدغدغني بالشوق.
سقى الله أيام الورق ورائحته ولمساته، وسقى الله رسائل البريد الملونة المضمخة بالحنين والأشواق المحشورة بين السطور، وسقى الله حرصنا الطفولي العظيم حين كنا نكتب على كل رسالة نرسلها: شكراً لساعي البريد.
ولهذا وعلى سبيل الدهشة، وكسراً لروتين الحياة وعاديتها ومللها، ما زلت أحرص كل الحرص أن أتبادل الرسائل الورقية مع حفنة من الأصدقاء خارج الوطن وداخله، وكم أجدها مختلفة ومدهشة هذه العادة الجميلة، وكم مرة أمرني فضولي وشوقي أن لا أبرح مبنى البريد، إلا وقد قرأتها، مرة أو مرتين
.
هونغ كونغ أطلقت قبل سنوات شعار (شخص واحد، رسالة واحدة)، وهي فكرة تتيح لكل مواطن أن يرسل مجانا رسالة لمواطن آخر، وذلك لحث الناس على الإبقاء على الرسائل الورقية فيما بينهم، لما فيها من تواصل إنساني جميل بدأنا نفتقده في أيامنا هذه، رغم ما ننعم به من تكنولوجيا الاتصالات، ويوم السبت المقبل يتبنى هذا الشعار الجميل بريدنا الأردني، فيتيح لكل مواطن إرسال رسالة مجانية إلى من يحب. إلى أم في عيدها، أو إلى أخ أو أخت أو حبيب أو زوجة أعمانا الروتين أن نقول لهم: إننا ما زلنا نحبك.
دوائر البريد في العالم كانت تنقل مليارات الرسائل في السنة، والتي لو رُصّت جنبا إلى جنب لغطت المسافة من الأرض إلى القمر 200 مرة، أو غطت سوراً بارتفاع 4 أمتار حول العالم. وكم من هذه الرسائل كانت تحمل الأشواق الساخنة، والمواعيد اللاهفة، أو تحمل قبلاً مهموسةً في منديل صغير | .
هي دعوة أن نرسل رسالة ورقية لصديق قريب، حتى لو كنا نراه مرتين في اليوم، أو إلى حبيب غاب منذ أقل من قبلتين، أو أخ لم يتذكرنا منذ رنة جوال. دعونا نرسل رسالة ورقية؛ كي نشعر أننا لم نتحول بعد إلى آلات صماء.
بقلم رمزي الغزوي
المراجع
addustour.com
التصانيف
صحافة رمزي الغزوي جريدة الدستور العلوم الاجتماعية
|